رغم صخب وحضور وزيرنا الراحل د.غازي القصيبي يرحمه الله في الساحة الإعلامية، إلا أنه لم يتسنَّ لكاتب السطور أن يتماسّ مع معاليه سوى مرتين فقط؛ أولاهما قبل أربع سنوات، عندما كتبت مقالة في صحيفة المدينة؛ علقت فيها برأيي، وأسوقها هنا بنصها؛ لأن معاليه قرأها في حياته وأرسل لي تعليقه عبر صديق مشترك. كان عنوان المقالة (توقيت الاعتزال..إلهامٌ وهبة) قلت فيها: "أحبابنا في فنون البرمجة اللغوية العصبية " n l p يقولون بأن ثمّة رابطاً إيجابياً أو سلبياً يُختزن في اللاوعي لدى الإنسان، وتتمثل في آخر صورة له، والأعمال بخواتيمها، وهذا ما حصل لفتانا الأسمر للأسف، وللشخصية الثانية التي أرى أنها لم توفق في قرار الاعتزال، وقصدتُ بها وزيرنا العملاق غازي القصيبي، وقد أبهر جيلي بعطاءاته، ورسم لنفسه كاريزما آسرة في نفوسنا، وقد استطاع بذكاء توظيف الإعلام – بالطبع قبل عصر الفضائيات والإنترنت ولم يك متاحاً سوى قناتينا اليتيمتين وبضع صحف- لصالح تجذير هذه الكاريزما، ولتغطية غزواته المفاجئة على الإدارات والمستشفيات، التي كانت حديث مجالسنا ومنتدياتنا، ونحن نخوض في سيرته العطرة، وأساليبه الإدارية الخارقة، وبات أمامنا أنموذجاً للوزير الناجح والإداري الخارق، فيما كان بقية الوزراء المعاصرين له لا يدركون قيمة وأهمية الإعلام، وما يصنعه من نجومية. ما الذي تبقى في ذاكرتي الآن عن الرجل، سوى (ترادحاته) مع رجال الأعمال حول العمالة والسعودة، وقد تاه ذلك المجد الوزاري والأسطورة الإدارية في أضابير البطالة، وسخط الشباب، وبيروقراطيات وزارة العمل، وأتصور أنّ معاليه فاته توقيتٌ ذهبيٌ للاعتزال بعد خروجه المشرّف من العمل الدبلوماسي بلندن، وجاءنا كأحد الأبطال الشرفاء الذين ناضلوا ضد اللوبي اليهودي، وخدموا وطنهم بجهاد حقيقي، ولن ننسى له قصيدته الشهيرة (الشهداء) التي حفظتها الأجيال العربية وتغنى بها الناشئة، ودفع منصبه كسفير في لندن ثمناً لها. ليته اكتفى بمنصب مستشار للقيادة السعودية، وبقي أسطورة في وجداننا، لكنه سوء التوقيت.. وجهة نظر ربما تكون خاطئة؛ لكنها يقيناً تعبّر بصراحة عن رؤية مُعجبٍ مُحبٍّ. أيَّها السادة، توقيت الاعتزال إلهامٌ وتوفيقٌ يهبه الله لمن يشاء من عباده الناجحين.. فأسوأ ما يختتم به الرجل الناجح- أيّاً كان- هو عدم اعتزاله منصبه أو فنّه وهو في قمة عطائه وتألقه، كي يترسّخ بصورة إيجابية ومثلى بذاكرة المجتمع وأجياله، وليت الآخرين - من المسمّرين في كراسيهم الصدئة- يتعظون ويسارعون لاهتبال الفرص التي أمامهم، فالأيام دُول والزمن قُلّب"أ.ه. معاليه –يرحمه الله- أرسل لي عن طريق زميلٍ قريبٍ منه، بأنه سعى وطلب التقاعد، لكن ولي الأمر رفض، ووجب عليه تلبية نداء الوطن والقيادة. الموقف الثاني كان قبل عام، وأثناء حفل تكريمٍ رعاهُ في شركة عبداللطيف جميل؛ وقتما أخذ بيدي أخي الأكبر د. سعد بن عطية الغامدي ليقدمني له، فانتصب واقفاً بطوله الفارع، وقال: "أهلا بصاحب المكاشفات الذي كاشف الكل ولم يكاشفني"، فبادرته: "لذلك أتيتك لأخذ موعد منك بالمكاشفات"، فوافق، وقلت: "سأشهد عليك د. الغامدي كي لا تتراجع"، فضحك طويلاً، وعدت إلى مقعدي بعد تأكيده بعدم التراجع، واستمعت لكلمته التي ارتجلها في الحفل، وأسرني الرجل ببلاغته، غير أنه استوقف كل من في القاعة، وهو يقول: "والله إني قبل أن أنام، أتذكر الله، وما سيسألني عنه عمّا في يدي من مسؤوليات، وما قدمته لهؤلاء الشباب والفتيات؛ فأوجل وأخاف"، وحلق بنا في أجواء إيمانية عالية، فاتحته بها؛ وقتما صعدت إلى المنصة لاستلام الدرع، فقلت له: "معالي الوزير، هذه النفحة الإيمانية التي استمعت إليها للتو منك، هل العمر هو السبب؟ - لدي قناعة أكيدة بأن فورات العمر تأخذ مداها ثم تتراخى، ويعود الإنسان في أخريات حياته إلى نوع من التديُّن وهو ما حصل لكثيرين من الفلاسفة والمفكرين-، أجابني معاليه -بعد أن تفرّس عميقاً فيّ- وقال: "الزمن يا عبدالعزيز يعلمك الكثير". تحدث الكثيرون عن مآثر الفقيد، ومما يحسب له بالتأكيد نظافة يده وشفافيته، فحتى الإسلاميون، الذين ناوؤوه وناوأهم، يعترفون له بذلك، ولكن ثمة خصلة مهمة في الرجل؛ تتمثل في فروسيته مع مخالفيه، واستمعت للشيخ سلمان العودة في برنامجه (حجر الزاوية) الأسبوع الماضي؛ يؤكد هذا المعنى، ويقول بأنه أثناء إيقافه في (الحائر) إبان عزّ المعركة مع القصيبي بتسعينيات القرن الفارط، جاء ذكره عنده فأمسك ولم يتحدث بشماتة عنه، ويحكي لي أحد أبرز كتاب "الوطن" بأنه تناول في إحدى مقالاته، أحد الإسلاميين الموقوفين (د.سعيد بن زعير)، وفوجئ بالراحل يتصل به عاتباً، قائلاً له: "ليس من المروءة التحدث عن رجل لا يستطيع الرد عليك"، حتى إنني سمعت أحد كبار الدعاة يقول: "ليت كل الليبراليين بفروسية القصيبي وشرف الخصومة لديه، وحرقته على قضايا الأمة"، وهو ما يفسر كلام عبدالرحمن الراشد في مقالته الأخيرة عن القصيبي، مشيراً إلى أن الراحل كان يقول له: "لا أدري لماذا يحشرونني معكم؟". أختم بالدعاء للراحل، وأتصور ضرورة التوازن في الحديث عنه، فبالتأكيد لم يكن الوزير معصوماً أبداً بما يصوّره البعض، وأيضا الشماتة بموته من قبل الآخرين هو سلوك بعيد عن روح وسماحة الإسلام. رحم الله الفقيد، وغفر له، وكم تمنيت أن يمتد به العمر، إذن لأتحفنا بقراءات بها كثير من الإيمانيات، من رجل يعتبر تاريخاً وكتلة من المواهب تجمعت في إنسان خبَر الحياة ومآزقها.. كاتب وإعلامي سعودي [email protected]