"من أراد أن يعرف أسرار ما أحدثه إياد مدني في السَّاحة الفكرية السعودية خلال السنوات الأربع؛ لتسنمه الوزارة، فعليه بكتابه (سن زرافة) فإنه يقدم له إجابات مستفيضة على كل الأسئلة الحيرى التي لابت في نفسه بلا إجابة منذ ذلك الحين". هتفت بهذه العبارة، وأنا أنهي الأسبوع الفارط ذلك الكتاب الآنف الذي تلقيته بامتنان من معاليه، وأعترف بتأخري في قراءته بسبب مخاتلة العنوان، الذي وشى بأنه عنوان رواية أكثر من أنه عنوان كتاب، لخص فيه أكثر وزراء الإعلام -من وجهة نظري الشخصية- جسارةً وتغييراً على مدى تاريخها، رؤيته الفكرية. كتب زملاء عديدون عن الكتاب، وأرشفته وموضوعاته، غير أنني سأنحو منحى آخر في مقالتي، ذلكم أن معاليه من أكثر الوزراء الذين جُوبهوا بممانعة شديدة من قبل معارضيه الإسلاميين وغيرهم -برأيي حتى وزيرنا غازي القصيبي (شفاه الله) لم يتعرض لما تعرض له إياد مدني من هجوم شخصي وممانعة لمشروعاته- وبالتالي، كان لإعلامي مثلي هو في الصميم من ذلك الحراك وقد وقف مشدوهاً، وغيره، من هذه الجرأة في التغيير، أن يهتم بالعوامل التي وقفت خلف مشروعات وأداء معاليه. من السطور الأولى للكتاب، ليدرك القارئ من وهلته؛ أن إياد مدني مثقفٌ من الطراز الأول، وصاحب أطروحات فكرية، وهذا فسّر جزءاً من تلك الطلاسم، فمعاليه ليس ككثيرين غيره؛ مجرد وزير موظف، بل صاحب مشروع فكري، وجيلي لم يدركه مثقفاً وكاتباً، بل أدركه وزيراً، حتى أدواره الوطنية، وقتما قام في التسعينيات إبان أزمة الخليج، بالمساهمة في مسودة (العريضة المدنية) التي وقف خلفها ثلة مثقفين وطنيين والتي قدمت للدولة إذاك، لم يكُّ دوره ظاهراً، بما أشار إليه الباحث احمد عدنان في مقالته (السعودية 1990 مخاض دولة ومجتمع).. الكتاب تعرَّض لفلسفة معاليه ورؤيته لمحاور شتى؛ منها دور القبيلة في مجتمعنا، ومكانة المرأة، وسؤال الهوية والتنمية، ومما يجعلك تنسجم كثيرا في سطور الكتاب، كون معاليه تولى وزارتين، وبلور فيهما كثيراً من رؤيته خصوصاً في الثقافة والإعلام. بيد أنني سأركز على محورين هما الأهمّ: موقفه من الليبرالية؛ وقد وُصم بأنه أحد دُعاتها من قبل بعض خصومه، وأيضاً موقفه من التيار الإسلامي. سيُصدم القارئ بأن إياد مدني يقف موقفاً صريحاً ومعارضاً لليبرالية – ما يعطي الأمر مصداقية أكبر أن كتاباته هذه قبل توليه الوزارة- فهو يقول في مقالته (الرعية) في ص132 "تحويل هذا الحنين إلى التراث وتلقائية التجاوب معه إلى فكر إيجابي يأخذ الأزمة الراهنة كمنطق له وينظر إلى مستقبله لا ماضيه، هو الأمل الوحيد لبداية تغير الفرد العربي المستسلم القانع الخانع، بعيدا عن الذين يصرون على أن الرعية ما زالت تعيش كما كانت وابن الخطاب هو الخليفة، أو أن الليبرالية هي البلسم الشافي للتخلف العربي، أو أن الكوادر الثورية هي طليعة النجاة إلى يوتوبيا الأرض". وفي مقالته (إلى اليسار در) ص 126 يقول "مرة أخرى، يجب أن نكرّر أن رفض الليبرالية ورفض أفكار اليسار يعني بالضرورة تقديم البديل، ومنطقة الجزيرة والخليج تمتلك إمكانية تقديم هذا البديل، بحكم أنهما لم يقعا ضحية الفكر الليبرالي الغربي أو الماركسي اليساري وبحكم إصرارها التاريخي على تقديم الممارسة الإسلامية على التبني غير المشروط لأفكار الآخرين..". في تصوري، أن بدايات الإنسان وهو في ميعة الشباب، وقراءته الفكرية ونشاطاته تفسّر كثيرا مما ينتهي إليه من فكر وممارسة. ولطالما كنت حريصاً، وأنا أُجري (المكاشفات) مع ضيوفي أن أمرّ على تاريخ قراءاتهم، وأركز على مراحل التنشئة الاجتماعية، لأن فيها مراحل التكوّن الفكري الذي يفسّر الشخصية التي أمامي. ربما من أهمّ المقالات التي تشرح فكر وتكوين إياد مدني هي مقالته (خيمة مايكل جاكسون) فقد حكى فيها -بأسلوب أدبي رفيع- كيف كانت تطلعات تلك المجموعة التي ابتعثت إلى أمريكا -في الستينيات الميلادية- وكيف تلقوا الصدمة الحضارية، وكيف سبروا تلك التيارات السياسية والاجتماعية التي عجّ بها الشارع الأمريكي وقتذاك. وصَف معاليه، بشكل دقيق، أمريكا كنيدي ومرورا بمارتن لوثر كنج والبيتلز وحرب فيتنام وعبدالناصر وهزيمة 67م، وأنهي مقالته الأهمّ -التي حاول ترجمتها برأيي في واقع ساحتنا السعودية- بقوله "إذا كان الأمر كذلك، في تجربة حية أخذت مداها، فلماذا الوجل والتوجس والخيفة المشاهدة اليوم، نخشى أن نغرق إعلامياً، وأن نخترق سياسياً، وأن نتحلل اجتماعياً، وأن نتطرف أخلاقياً. ويرى البعض الحل أن نعيش داخل خيمة من الأوكسجين، مثل الخيمة التي نام "مايكل جاكسون" تحتها؛ خوفا من أن تصيب صحته العليلة جرثومة شاردة.." ولكن ماذا عن تلك الصدامية الحادة التي حدثت إبّان وزارته للإعلام مع التيار الديني، والأسئلة التي انبَّجست عن سبب مناوئته لبعض فصائله المتجذرة في الساحة المحلية، ألفيت الإجابة حاضرةً في مقالته (الأصالة والمعاصرة) وقد بدأه بسؤال عمّن هو المقصود بالأصالة "أيقصد بالأصالة التيار التقليدي..الفكر السلفي..". معاليه أبان رؤيته بشكل جلي حيال ما تعانيه ساحتنا الفكرية، وأن الانفصام هو السبب في ازدواجيتنا الاجتماعية، واقرؤوا معي ما قاله ص 97 "المقصود هنا هو ذلك الانفصام الملاحظ في مجتمعنا بين مجموعتين رئيستين وإن كانتا غير متكافئتين: مجموعة رجال الدين ومجموعة المثقفين.. وما يشوب العلاقة بينهما من بُعد وتباعد. فرجال الدين هم الذين يضيئون النور الأحمر أو الأخضر أمام الجديد، وهم الذين يمارسون دوراً مطلوباً ولكنه لا يمكن أن يكون منغلقاً وإلا لأصبح يدور حول ذاته، يميل نحو الرفض بدلا ًمن تقديم البديل، ويقصي نفسه بالتدريج عن مجريات الحياة وطبيعة الأمور(....) المثقفون يقفون بدورهم في عزلة وغربة ولكنها من نوع آخر، عزلة البعيد عن صاحب القرار..عزلة الذي يفتقد فرص الحوار مع من يؤثر في القرار.." ألم أقل إن الكتاب يقدم كل التفسير لما حدث في الساحة الفكرية السعودية خلال السنوات الأربع. خاتمة الكتاب تلخص رؤية معاليه عن الهوية والتنمية وفهم الإسلام (سؤال ال"هنا") ص231 "الحراك الفكري الذي يهدف إلى الوصول إلى الأصالة والتجدد والريادة والتأثير لا بدّ أن ينطلق من حقيقة أن الإسلام يشكّل في الواقع الاجتماعي والثقافي الراهن في المملكة جوهره، ويثبت في نفس الوقت أن الإسلام وتراثه ملك للجميع، وليس قصرا على أحد دون أحد آخر، أو تيار دون غيره". ولربما أنهي سطوري بسبب محدودية المساحة بمشاكسة معاليه، وذلك بسرد ما رد به د.عبدالله الحامد عليه، في مقولة تلخص دبلوماسيته التي ينتهجها دوماً، وصفة قال بها كثير ممن عمل معه، وقتما رد عليه الحامد –وزيرنا يشكر على اتساع صدره للنقد عبر نشره المداخلة في كتابه- بندوة (النفط والفكر) ص219 " أما إياد مدني فقد بدا لبعض الناس دبلوماسياً فطناً؛ لأنه علق الأسئلة وترك للناس أن يخمنوا الأجوبة، وأن يقولوا صراحة ما لم يستطع أن يقوله كناية..". دعوة لإخوتي من رموز التيار الديني، بقراءة (سن زرافة) فهو المفتاح السحري لفك كل طلاسم الأسئلة التي استغلقت على الفهم، في معرفة الانقلاب الذي حصل في الساحة الفكرية. * إعلامي سعودي [email protected]