لا يمكن أن نفهم أبدا الخلاف على أغنية (تسلم الأيادي) باعتباره اختلافًا على مكانة جيشنا العظيم في قلوب الشعب المصري، ولا ينبغي أن تجرنا لحظة سياسية عابرة لتشويه صورة ذلك الجيش الذي هو أكبر وأهم بكثير من أية خلافات، وإنما يأتي الاعتراض عليها لارتباطها بفض اعتصامي النهضة ورابعة، وما نجم عنه من دماء هي الأكثر في تاريخنا المعاصر، فلا عيب أن نغني لجيشنا حين يتصدى لأعدائنا، ولكن الجريمة حقًّا هي أن ننكأ جراحنا بأيدينا، ولقد سعدت بقرار المسئولين بوقف تلك الأغنية في المدارس وإعادة إذاعة الأغاني الوطنية القديمة التي ارتبطت غالبا بصراعنا مع العدو الصهيوني، وفي تقديري إن هذا القرار هو أول الخطوات في الطريق الصحيح. لقد ذكرتني هذه الأحداث بيوم من حياتي أعتز به، وأفتخر بتلك اللحظات التي حملت فيها ذلك الحذاء.. كان هذا اليوم منذ أكثر من خمسة عشر عاما حينما استأجرت (تاكسي) ليرافقني طول اليوم لقضاء عدة أمور، كان السائق يكبرني بحوالي عشرين عاما، وبينما نتبادل الحديث أخبرني بأنه من أول الجنود الذين وضعوا أقدامهم على أرض سيناء الحبيبة في السادس من أكتوبر عام 1973، وقبل أن أتكلم أخرج من جيبه ورقة من جريدة تعود لذلك العام، يحتفظ بها بعناية وفيها صورته واسمه ضمن أول الجنود الذين لمسوا بأقدامهم أرض سيناء في يوم العبور، ودون أن أبدي شكي في كلامه أخرج البطاقة الشخصية لمطابقة الاسم. لم أكن محتاجًا لأية وثيقة تؤكد كلامه رغم توفر الوثائق، فالشبه الشديد بينه وبين صاحب الصورة، وتطابق الأسماء، وقبل كل هذا نبرة الصدق والشموخ والعزة والفخر والثقة وذلك النور والبهاء اللذان يشعان من قسمات وجهه. كل ذلك يؤكد أنه صادق، بل إنه بطل وفارس نبيل. أخذ البطل يحكي تفاصيل يوم العبور كما عاشها، وأنا أستمع إليه بإنصات واهتمام، وكأن شلالا من الخجل بدأ يتدفق على رأسي، فكان كلما ذكر موقفا كان الموت رفيقه فيه من أجل استرداد تراب الوطن، وكان يقدم على ذلك بشجاعة بل يرجو أن يقدم روحه في سبيل حرية الأجيال الحالية والقادمة كنت أغرق في خجلي، إذ كيف يقود السيارة وأنا أجلس بجواره على المقعد الوثير بينما كنت طفلا ألهو مع أقراني في الوقت الذي كان هو فيه يقاتل العدو الصهيوني من أجل حريتي وكرامتي، ويقوم هو الآن بخدمتي كسائق تاكسي؟! انتابني شعور شديد بضرورة وضع الأمور في نصابها وتكريم هذا الرجل العظيم. وانتهزت فرصة أذان الظهر فطلبت منه أن نتوقف بجوار مسجد للصلاة، فاستجاب لذلك سعيدًا، وبعد أن انتهينا من صلاتنا عمدت إلى أن أسبقه في الخروج من المسجد، ثم حملت حذائي وحذاءه إلى خارج المسجد، حاول أن يمنعني ولكنني كنت أسرع منه، فعاتبني قائلا (العفو يا بيه ما يصحش والله أبدا). فقلت له: بل إن هذا أقل ما تستحقه ولا يساوي ثانية واحدة قضيتها أنت في حربنا مع العدو الصهيوني. أقسم أن هذا هو ما حدث تماما.. وأنا إذ أتذكره اليوم يشرد بي الخيال، فأتخيل لو بعد عشرين عاما تكرر هذا المشهد فركب طفل اليوم مع سائق تاكسي الغد، وحكي له أنه كان ضمن الجنود الذين شاركوا في فض اعتصام رابعة من عشرين عاما، وتصادف –لا قدر الله- أن يكون ذلك الشاب الراكب معه هو ابن لأحد من المقتولين في ميدان رابعة، ترى ماذا ستكون مشاعره في ذلك الحين، وكيف سيرد عليه..؟! ألسنا محتاجين لطي بعض الصفحات من واقعنا لا أن نتغنى بها؛ حتى لا نورث الأجيال القادمة البغضاء التي صنعناها بأيدينا..؟! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.