لأول مرة يعتريني خجل حقيقي، وأنا أري »الجيب« المكشوفة، تقل كافة رؤساء الوحدات الفرعية - من دوني - وهم يطوقون قائدهم بود حقيقي، لا تشوبه هنة من خشية أو نفاق.. مما حفزني للبحث عن رد شجاع يدخلني زمرة رفاق الطريق: - يا أفندم.. أنا.. أنا.. قاطعني القائد بغضب تناهي إلي مفتعلا.. - لا أنا، ولا أنت.. إذا كنت تريد أن تدخل في الخط، مثل باقي رؤساء الوحدات.. أخرج إلينا الآن، واعطني التمام فورا.. وإلا أنزلت بك الجزاء.. - لا استطيع الآن.. لحظة من فضلك يا أفندم.. أنا عار كما ولدتني أمي. - تكسر الأوامر!!.. هذا وقته المناسب.. الجيش يطلب منك أن تكون جاهزا علي أي وضع.. أنا شخصيا لا يلزمني الهندام أو الأناقة.. هل نحن مدنيون يا ضابط.. الافتتاحية لا تجوز علي عاقل.. بداية لدعابة أخري فاشلة.. من أين تأتي الملحة الجارحة.. العري الكامل أمام الجميع.. هل يعقل!!.. نعم تلك هي الملحة التي اقتنصها القائد، من واقع حالي الراهن.. شأنه دائما.. الضربة - هذه المرة - أشد ايلاما.. أين الرحمة بين رفاق السلاح.. الوجوه التي بدأت تضيئها ابتسامات خبث، قد يأتي دورها فيما بعد.. لابد من ايقاف المزحة بأي ثمن.. كنت افكر حائراً، وأتلكأ بحثا عن وسيلة للإفلات.. قبل أن أفطن لها.. كان جنديان من حملة »الجيب« قد خاضا المياه - دون أن أشعر بهما - ثم طوقاني ، وجرجراني بعنف، بعد أن شلا مقاومتي - دون نظر لرتبتي، وأصول العسكرية - لكي أقف أمامهم كما ولدتني أمي، لا حول لي ولا قوة.. خجلت أيما خجل، وأنا أشاهد القائد يطل - بكل جرأة - علي عورتي، وتلك الغابة المظلمة لمنطقة العانة، باندهاش مفتعل: - ياه.. مدفع مهول، يحتاج لصيانة، وإزالة الأحراش من حوله.. ليكون جاهزا للضرب.. بلغ عن الأعطال فورا.. قبل موعد المؤتمر.. ضج الجميع بعاصفة من الضحك.. وجدت ألا جدوي من إخفاء شيء.. وأن الأمر يقتضي ألا أقف بغباء، في وجه المزحة بثقلها الجارف، وإلا سحبتني لأوجاع الكآبة والأحزان.. دلفت إلي أرجاء العاصفة، وأنا أجاهد مفتعلا »كركرة« عالية، لكي أعلو علي صخبها.. أدير المحرك.. قبل رحيلهم، تداركت بجدية: - وهل هناك مؤتمر؟! التفت إلي القائد، في سرعتها الأولي لكي يواجهني بالسحنة التي ترهبنا.. زام بعبوس: - نعم.. هل ظننت أننا نلعب في الماء مثلك.. ألبس فورا، والحق بنا، بمكتب القيادة.. ابتعدت الجيب قليلا.. وكانت الرؤوس التي تقلها تتأرجح علوا وهبوطا، حسب نتوءات الطريق تطل بعيون شاخصة، باتجاه الشاطئ المقابل كأنها تعاين لأول مرة علي الطبيعة، الحد الأمامي لقطاعنا بالجبهة.. إلا أنها - بعد ذلك - خلفتني وراءها - ذاهلا - وهي تنتقل لسرعتها الثالثة - دون تمهيد - فأثارت زوبعة، من الأتربة والأدخنة، أسدلت غلالة غامضة علي العري، مما حفزني علي سرعة ارتداء ملابسي. -4- تسللت بلا ضجة، أو تحية عسكرية، إلي حرم مكتب القائد، كالشأن حين دخولي لساحة مسجد لأداء فريضة.. لم يؤرقني وصولي متأخرا - بعض الشيء - و للمؤتمر.. بقدر ما راعني مشهد من سبقوني، من قادة الوحدات الفرعية وهو غارقون حتي الآذان في أداء طقوس مهامهم العسكرية، بالانكفاء - بعيون شاخصة - تنضح بالحرص والذكاء، علي بيانات واحداثيات، لوحة تختة ادارة النيران، الخاصة برئيس العمليات.. ينقلونها بكل اهتمام ودقة، إلي »بلانشيطات« معلقة بفتحات صغيرة علي أكفهم - فيما يشبه »بالتات« الفنانين التشكيليين - ولم يكن يتناهي إلي السمع إلا صرير أقلام الشمع والأردواز، والماستر.. كنت ألاحق حركاتهم العجلة الدؤوبة الصامتة، وأحسدهم علي كم الجدية والوقار، الذي حرمني منه، بقايا نزيف من الجرح الذي خلفته المزحة.. وأنقم عليهم لأن أحداً لم يلتفت إلي، أو يحس بوجودي - كأني نكرة - سوي القائد الذي تنبه من فورة، وصاح بقلق وتجهم لا أعرف سببا له: - بلغ عن الأعطال.. عجبت لسرعة الانقلاب، حتي ظننتة طقس من الختام الضروري لحبكة المزحة.. وبرق بخاطري - كشهاب خاطف - مشهد عربي الذي كان منذ لحظات.. مصدر هزلهم.. وكدت أنفجر بعبوة ناسفة، من ضحك، كادت تمزق صدري - من شدة الكتمان - إلا أن سحابة الصمت المطبق، أخرست شياطين الهزل.. ودب في أوصالي، من عدوي الوقار، ما تمكنت به كبح جماح تقلصات عضلات الوجه المفكوكة.. أجبت بمنتهي الثقة والثبات: - تمام يا أفندم.. لا توجد أعطال سوي ورقة »سوستة أم« بأكس الإطار الخلفي للشاحنة »الزيل«.. والدورة الكهربائية بجرار القاذف الصاروخي رقم ثلاثة.. - قدم تقريرك.. سلمت التقرير.. وأذهلني ما تسلمته من أوامر القتال.. برغم توقعي.. كانت مودعة بالاسم، داخل مظروف أنيق، أصابني منظرة بدوار خفيف، نقلني لإحساس غريب بأنه قد سبق لي أن شاهدت مراسم تسليمي أوامر القتال علي نفس الهيئة، قبل ذلك.. متي؟!.. أين؟!.. لا أعرف.. تداركت، وقلت لنفسي بعجلة.. »الآن سوف يضع القائد يده فوق كتفي بحنان غريب، لم أحسه من قبل.. وبعدها يسحبني بوداعة إلي موقعي علي مائدة تختة إدارة النيران لكي أشارك أقراني في نقل بيانات واحداثيات قطاع وحدتي«.. وقد حدث مما اصابني بالدهشة، والخوف. -5- اليوم: السادس من أكتوبر. الوقت: الساعة الثانية والثلث بعد الظهر المكان: الميول الخلفية للساتر المواجه لقطاع الشط انتهي التمهيد النيراني، من جميع أعيرة مدفعية الميدان.. كما انتهت وحدتنا من قصف الأهداف المدبرة - حسبما هو مدون بطبوغرافيا الخرائط المساحية، والبيانات الإحداثية الموقعة علي تختة ادارة النيران - باحكام يفوق بيانات مشاريع المجموعة، والجيوش، السابق التدريب عليها.. بوسائل أسهل، ومختصرة.. كما عادت أسراب المقاتلات، والمقاتلات القاذفة غربا بتشكيلاتها كاملة - دون خسائر تذكر - وقد كنا نقوم باحصاء أعدادها أثناء مرورها - من فوق رؤوسنا - شرقا.. وقد كانت تشق عنان السماء علي ارتفاعات منخفضة مرعبة، تنحني لها أعظم الرؤوس شجاعة.. قبل أن نسترد أنفاسنا، وفي تمام الساعة الثانية والثلث، بدأ دفع القوارب علي نغمات التكبير المدوية.. وطويت صفحة المياه بأسرع ما توقعنا.. فقد كان الحماس في ذروته.. فتحت الثغرات في حقول الألغام.. وأصبح الساتر المواجه ملغما بالعناصر المترجلة، وحبال التسلق، وحبال الجر توالي دورها في رفع الأفراد والأسلحة الخفيفة.. صواريخ مضادة للدبابات، والطائرات، ومدافع ب 10 ، ب 11 يتم نقلها بالجر.. ذخيرة تعبأ في عربات جر يدوية بعجل كاوتشك.. كثافة رهيبة تجاهد في الصعود قفزاً، في موجات متتالية، تراءت لناظري علي شكل مامة سوداء، غريبة بلون ذرات السناج، وهي تصعد حثيثا من أسفل لأعلي لتغطي جلد جسد آدمي عاري.. لا يوقفها مقاومة تذكر، سوي بعض من طلقات عشوائية متفرقة.. بدت لعيني كذرع مشلول ثبت دعامة للجسد وهو يتهاوي.. تأملت بامعان غمامة السناج الصاعد قفزا باصرار.. اصابني دوار.. نقلني لعالم أقرب لاجواء حلم، صور لي الساتر المواجه، كأطراف الجسد وقد أقعي علي مؤخرته، بلا حول ولا قوة.. وأن مجال رؤيتي يقع بالتام علي قطاع الساقين المعلقين لأعلي، وموطن العفة.. كما خيل لي أن خلل توازن بعض الصاعدين - من جملة الغمامة السوداء - الذي كان يجرفهم عنوة لأسفل.. كان يترك، بعدها فضاءات، بلون الجلد الآدمي.. تتخلل السحابة المطبقة باحكام .. تلك الفضاءات كان يعاد طلائها بالسناج - مرة أخري - بفعل تبادل المواقع، واصرار الموجة التالية علي الصعود، وأن السقوط عنوة - لما يتراءي علي شكل ذارت دقيقة - لم يكن بفعل رعونة الصعود.. بل بفعل انتفاضة يائسة لساق آدمية حية علقت بأنشوطة، وتجاهد - قدر استطاعتها - لإزاحة الغمامة المرعبة، التي فاجأتها - علي غرة - كما خيل إلي أيضا، أنه لا سبيل أمامها للخلاص - من فداحة الوخز - سوي بالغرق الكامل. أين رأيت هذا المشهد من قبل، يا تري؟!.. أين.. أي ي ي ن.. حقيقة أصبحت لا أدري.