من الصعب أن تستوعب هذه المساحة النظر في مجمل الانحرافات ، بل المؤامرات ، التي قامت بها لجنة العشرة لتعديل الدستور ، وقد استفاض في شيء منها الأستاذ يحيى حسن عمر في سلسلة مقالاته في المصريون ، ولكني أتوقف عند لمحات من هذه التعديلات ، أظن أنها كافية لإدراك الروح السوداوية التي يتعامل بها هؤلاء المتآمرون على دستور ثورة يناير . في المادة 199 من الدستور الذي أعدته لجنة المستشار حسام الغرياني وصدق عليه الشعب المصري كان نص هذه المادة المتعلقة بجهاز الشرطة يقول (الشرطة هيئة مدنية نظامية، رئيسها الأعلى رئيس الجمهورية، وتؤدى واجبها فى خدمة الشعب، وولاؤها للدستور والقانون، وتتولى حفظ النظام والأمن والآداب العامة، وتنفيذ ما تفرضه القوانين واللوائح، وتكفل للمواطنين طمأنينتهم وحماية كرامتهم وحقوقهم وحرياتهم، وذلك كله؛ على النحو الذى ينظمه القانون)، وقد نقلت هذه المادة بنصها إلى الدستور الجديد ، وجاءت تحت رقم المادة (176) ، ولكن المثير للدهشة أن اللجنة "القانونية" التي صاغت التعديلات اهتمت كثيرا بحذف الجملة التالية : (وتكفل للمواطنين طمأنينتهم وحماية كرامتهم وحقوقهم وحرياتهم ) ، وبطبيعة الحال لا نتصور أن هذه اللجنة كانت "شاربة حاجة" ، وهي تجري تعديلاتها ، كما لا أتصور أن المسألة تحتاج إلى جهابذة للقانون لكي يدركوا الإشارة التي أرادت هذه اللجنة ترسيخها في دستور الدولة الجديد ، دستور الثورة ، وتحديدا اعتبارها أن الشرطة ليست ملزمة بأن تكفل للمواطنين الطمأنينة وحماية الكرامة والحقوق والحريات ، وأعتقد أن الشرطة تطبق هذه التعديلات حاليا ، حتى من قبل الاستفتاء عليها . في المادة 36 باب الحقوق والحريات من دستور لجنة الغريان المحترمة ، كان هناك نص يحمي كرامة المقبوض عليهم لأي سبب ، ويجرم أي منتهك لهذه الحقوق ، ويقول النص القديم (كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته بأى قيد، تجب معاملته بما يحفظ كرامته. ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيا أو معنويا.ولا يكون حجزه ولا حبسه إلا فى أماكن لائقة إنسانيا وصحيا، وخاضعة للإشراف القضائي ، ومخالفة شيء من ذلك جريمة يُعاقب مرتكبها، وفقا للقانون) ، المثير للدهشة مجددا ، أن اللجنة "القضائية" التي أجرت التعديلات الجديدة ، أثبتت نص هذه المادة كله كما ورد، وذلك في المادة 40 من النسخة الجديدة ، لكنها ويا للعجب حرصت على أن تحذف جملة محددة من هذا النص ، جملة واحدة فقط ، وهي الجملة التي تقول (ومخالفة شيء من ذلك جريمة يُعاقب مرتكبها، وفقا للقانون) ، فهل يملك أحدنا أي تفسير آخر لهذا التعديل غير إعطاء الإذن "الدستوري" للشرطة لاستباحة المقبوض عليهم وضمان أن أي شيء يفعلونه لن يكون جريمة ولن يعاقبوا عليها ، هل هناك تفسير آخر لهذا الحذف البالغ الدلالة . في مسألة الحق في الحصول على المعلومات والإحصائيات ، وهي المادة 47 من نص الدستور المعطل ، الذي أعدته لجنة "المحترم" حسام الغرياني ، كان نص المادة يقول (الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق، والإفصاح عنها، وتداولها، حق تكفله الدولة لكل مواطن؛ بما لا يمس حرمة الحياة الخاصة، وحقوق الآخرين، ولا يتعارض مع الأمن القومى ، وينظم القانون قواعد إيداع الوثائق العامة وحفظها، وطريقة الحصول على المعلومات، والتظلم من رفض إعطائها، وما قد يترتب على هذا الرفض من مساءلة)، فقامت اللجنة الجديدة المشكلة لتعديل الدستور "المحترم" باعتماد نص المادة كاملا ، غير أنها حذفت جملتين قصيرتين لكنهما الضمانة الوحيدة لوجود هذا النص الدستوري من حيث الأساس ، حيث حذفت اللجنة العبارتين الأخيرتين (والتظلم من رفض إعطائها وما قد يترتب على هذا الرفض من مساءلة) ، وهو ما يعني أن هؤلاء المشرعين الجدد يخرجون لسانهم للجميع ويقولون : بلوا النص واشربوا ميته . في المادة 48 من دستور "المحترم" المستشار الغرياني ، وهي المتعلقة بحرية الصحافة ، كان ختامها يقول (والرقابة على ما تنشره وسائل الإعلام محظورة، ويجوز استثناء أن تفرض عليها رقابة محددة فى زمن الحرب أو التعبئة العامة) ، فأتت اللجنة الجديدة لكي تعتمد النص السابق بعد تعديل لافت جدا ، حيث حذفت عبارة "أو التعبئة العامة" لتضع مكانها عبارة "أو إعلان حالة الطوارئ) ، والتعبئة حالة الحرب ، أما الطوارئ فهي تعلن لأسباب عديدة ، كما هو الحال الآن، وقد عاشت مصر طوال عهد مبارك في طوارئ لأتفه الأسباب ، وهذا يعني أن حربة الصحافة والإعلام تتحول إلى مجرد وهم أو سراب يخدعون به الناس ، لأن السلطة يمكنها أن تفرض الرقابة عليها وتقيدها طالما حالة الطوارئ معلنة . والأمر نفسه في قضية حرية تشكيل الأحزاب السياسية ، وهو المكتسب الأهم والأخطر بعد ثورة يناير ، حيث كانت اللجنة "المحترمة" التي رأسها المستشار الغرياني تجعل حق تكوين الأحزاب بمجرد الإخطار ، فقيدته اللجنة الجديدة بعبارة (بإخطار ينظمه القانون) ، وطبعا كلنا نعرف كيف كان "القانون" ، قانون صفوت الشريف المشهور ، والمادة 6 لمن عانى مثلنا في محاولة تشكيل حزب سياسي ، وفي المحصلة ، لن يخرج حزب إلا برضا خليفة صفوت الشريف .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter: @GamalSultan1