* " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم , وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم " كلمات مضيئة بحروف من نور لايزن قدرها ولا قيمتها ولا علوها ولاثمنها أي ميزان ذهب في العالم...! إنها كلمات المعصوم صلى الله عليه وسلم للرماة فى يوم " أحد " لكن الرماة وهم السهم القاتل والأسد الرابض والقلب المستيقظ النابض فى ارض المعركة لما رأوا المغانم فى ارض المعركة جذبهم ذلك إلى ترك ارض المعركة بحثا عن نصيبهم من الغنائم..! فلما نهاهم قائد كتبية الرماة " عبد الله بن جبير " عن هذا لم ينتهوا ولم يسمعوا ونادوا ياقوم الغنيمة..! الغنيمة..! فكانت الهزيمة...؟ إن ميزان النصر والهزيمة ثابت لايتغير ولا يتلون ولا يتأرجح ولايهتز مهما اختلف الزمان والمكان واختلفت الأسماء والمسميات والظروف والملابسات . إن الانتصار فى ميدان النفس مقدم على الانتصار فى ميدان المعركة لان ميدان النفس هو الأقوى والأشق والأصعب لان النفوس لايعلم دخائلها إلا خالقها. ومن انهزم أمام مطامع النفس وشهواتها وميلها وانحرافها وزيغها فمن باب أولى أن ينهزم فى ميدان المعركة . فهل ياترى مع اختلاف المكان والزمان والغايات والوسائل نستطيع القول بان ثوار يناير نزلوا من على جبل الثورة بحثا عن الغنائم السياسية والمكاسب المادية والمعركة لم تضع أوزارها بعد فانكشفوا وبانوا وانهزموا...؟
* لست هنا بصدد المقارنة بين غزوة " احد " وبين ثورة يناير لان غزوة احد كان احد طرفيها مسلم والطرف الآخر " مشرك " أما ثورة يناير فكان احد طرفيها ثوار حقيقيون ثاروا على ظلم واستبداد واستعباد وبغى وفساد فى كل مناحي الحياة . أما الطرف الآخر فهو نظام حكم فاشي ظالم مستبد لايؤمن بحق الشعب فى حياة حرة كريمة بل يؤمن فقط بان الشعب تقرعه العصي لأنهم عبيد منا كيد...! وإنما وجه الشبه هنا ليست فى قضية الكفر والإيمان لكن فى أن أسباب النصر والهزيمة متداخلة ومتشابهة ومتقاربة مهما كان مسمى طرفي النزاع . فالنصر له أسبابه والهزيمة لها أسبابها مهما اختلف الزمان والمكان والغايات والوسائل التى يديرها طرفى النزاع لان سنن الله فى الكون ثابتة لاتتغير ولا تتبدل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا .
* وان تعجب آخى القارئ فعجب قول ابن مسعود رضي الله عنه ساعة قال : " ما كنت أظن أن أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل قول الله عز وجل " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " نعم هذا وصف قرآني صريح لبعض صحابة النبى صلى الله عليه وسلم ليكشف حقيقة النفوس وخباياها وأسرارها الدفينة العميقة . فما بالكم بأناس عاديين ثاروا على نظام حكم ظالم مستبد. فهل كانت ياترى نواياهم خالصة لوجه الله ثم من اجل تحرير هذا الوطن من الظلم والطغيان ..؟ أم أن هناك من كان لايلوى على شئ إلا على الحصول على بعض المغانم السياسية الرخيصة والمكاسب المادية الدنيئة والشو الاعلامى الفارغ؟ فما لبثوا أن اشعروا بالنصر على هذا النظام فنزلوا من على جبل الثورة وتركوا الميدان بحثا عن الغنائم المادية والسياسية فكانت الهزيمة درسا قاسيا بليغا أمام الدولة العتيقة والثورة المضادة فكان ماكان..؟!
* نعم .. وألف نعم.. بل ومليون نعم..! يجب ألا ندفس رؤوسنا فى الرمال ونبحث عن الحجج الواهية المبررات الرخيصة والحقائق واضحة وضوح الشمس فى كبد النهار كاالسبائك النفيسة . فقد ينكر الفم طعم الحلوى من سقم وقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد لكن تظل الحلوى حلوى لاينكر طعمها إلا الفم المريض السقيم وضوء الشمس جليا واضحا لاينكره إلا ضرير لايرى قدر قيد أنملة أمام أقدامه..! لقد نزلنا جميعا من على جبل الثورة والمعركة مازال وطيسها حام لم تضع أوزارها بعد وانشغلنا بجمع الغنائم المادية والمكاسب السياسية وتراشقنا بسهام الخيانة والعمالة والنذالة وخصمنا وعدونا مازال يلملم أوراقه ويجهز معداته ويوحد صفوفه لينقض على جسد الثورة فيضربها ضربة رجل واحد فيتفرق دمها بين القبائل ..! وقد كان لهم ماأردوا وسقطت الثورة فى بئر النزاعات والخلافات والانشقاقات وديست تحت أقدام المصالح ودفنت فى مقابر الذين ظلموا أنفسهم..!
* نعم .. وألف نعم .. ومليون نعم..! منا من كان يريد الثورة ومنا من كان يريد الثروة..! فسقطنا جميعا بلا ثورة ولا ثروة. لان من استعجل الشئ قبل أوانه عوقب بحرمانه . ولقد استعجلنا المكاسب فجنينا المتاعب . واستعجلنا المناصب فجنينا المصائب . واستعجلنا الشهرة فوقعنا فى الحفرة . واستعجلنا القيادة فوقعنا تحت ضغط البيادة . والكل أراد المنحة فكانت المحنة . والكل بحث عن الإحسان فكان الحرمان . تراشق الكرام فتقدم اللئام . غطسنا جميعا فى بحر الثورة نبحث عن الدرر فطفت جثثنا جميعا على سطح البحر كاالرمم . هانت علينا أنفسنا فكنا عند غيرنا أهون..! واستعجلنا جني العنب والثمرة لم تنضج بعد فجنينا المر والعلقم والشوك . الكل مسئول ولا أحد فوق المساءلة . ولا أحد مبرأ من المحاسبة . ولا أحد ينجو بنفسه ويقفز من السفينة ويتهم الطرف الآخر قائلا له " أنت المسئول " فالكل مسئول أمام الله فيما آلت إليه الأحوال من تردى وسقوط وهبوط على كل المستويات وفى كل الأحوال .
* نعم .. وألف نعم.. بل ومليون نعم..! نزل الرماة من جبل الثورة وانشغلوا بالغنائم والمكاسب والدولة العتيقة الفاسدة بقدها وقديدها وخيلها وخيلائها مازالت قائمة على أصولها لم تنهزم ولم تنسحب من الميدان . كل الذي حدث أن سقط رأس النظام أما جذعه الأصلي وأطرافه الأصيلة فمازالت مشتدة ومحتدة وممتدة تبحث فقط عن اللحظة المناسبة لتنقض وأتتها الفرصة على طبق من ذهب فانقضت وأردت الكل قتيلا غارقا فى دماء الذل والمهانة والعار والهزيمة وانتكست الثورة وانهزمت بالضربة القاضية وعاد النظام القديم بشحمه ولحمه ورموزه وقوانينه وعادوا ليرفعوا شعار " كل الشعب متهم حتى تثبت براءته..!" وحتى تثبت براءتك فلا تسأل عن كرامتك ولا عن آدميتك ولا إنسانيتك ولا شرفك ولا حقوقك . فأنت خلف الأسوار حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد قتلا وذبحا وسحلا فلايلومن إلا نفسه...!
* نعم .. وألف نعم .. بل ومليون نعم ..! يجب أن تعترف جميعا أننا فى الخطأ مشتركون عندما استبدلنا الشرعية الثورية بالشرعية الدستورية وظننا أننا فى وطن يحترم الدستور والقانون وأن الحق فوق القوة فتركنا الميادين واحتكمنا إلى الصناديق ظنا منا أن كلمة الشعب فى الصناديق هى حامى حمى الثورة ولم نكن نعلم أن الثورة لن يحميها إلا شرعية الميادين لحين استتباب الأمر لان الأفاعي مازالت تطل برؤوسها من جحورها تستعد للحظة المناسبة لكى تبث سمومها فيتسمم جسد الثورة ويمرض ويتساقط وقد كان لها ماأرادت...!. كان يجب ألا نترك الميادين لأننا أمام دولة عتيقة بداخلتيها وأجهزة أمنها وقضائها وإعلامها ورجال أعمالها وشبكة عنكبوتية تعطل المسير وتتحين الفرص لاصطياد الثورة والثوار بخيوطها السميكة الغليظة .
* نعم .. كان الرماة عددهم فى غزوة احد 50 من الرماة المحترفين المدربين نزل منهم 40 وبقى 10 منهم ثابتون صامدون . كانت الأغلبية مع المكاسب والمغانم وكانت الأقلية مع المبدأ وإطاعة أوامر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة بعد النصر والانكسار بعد الانتصار والانهيار بعد الانبهار وسالت الدماء وظن الرماة انه ليس للمشركين رجعة فذهبوا فى طلب الغنيمة وتركوا الثغور عارية مكشوفة ووقع الهرج والمرج فى الصف الاسلامى وكان الذعر والخوف والاضطراب هو سيد الموقف حتى رمى المشركون الرسول بالحجارة وانكسرت رباعيته وسقط فى حفرة من الحفر التى كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها . ونحن جميعا وقعنا فى حفرة الدولة العميقة وانكسرت رباعيتنا وسالت دماؤنا وطهيت لحومنا وتهشمت جماجمنا تحت عجلات القسوة والغلظة وشهوة الانتقام . دفعنا جميعا الضريبة أضعافا مضاعفة لمن لايستحق ان يتصدر المشهد وماكان لهم أن يتقدموا الصفوف لولا الضعف الذي أصابنا والوهن الذي لحق بنا والخديعة التى شربناها قطرة قطرة وذلك بما كسبت أيدينا وماربك بظلام للعبيد .
* هل أتاكم نبأ بنو سلمه وبنو حارثة الذين انسحبوا من منتصف الطريق يتقدمهم زعيم المنافقين عبد الله بن سلول والذي تذرع بان محمد صلى الله عليه وسلم اخذ برأي الشباب الأغرار ولم يأخذ برأي أمثاله من أصحاب الحجى والأحلام..! فكان هذا سببا كافيا من وجهة نظره لترك ارض المعركة وسحب وراءه ثلث الجيش لولا لطف الله بهم لوقعت الواقعة . إنها الفتنة الداخلية حين يختلط الثوار الحقيقيون بأصحاب المصالح الدنيئة فلانكاد نفرق بين الخيط الأبيض والخيط الأسود فالخيوط متشابكة متداخلة ولكن إرادة الله تأبى إلا أن تكون نار المحن سببا لتصفية الشوائب العالقة بالذهب لينكشف الجميع وصدق من قال : جزى الله خيرا الشدائد فقد عرفت بها عدوى من صديقى . ولولا ذلك لاختلط الحابل بالنابل والغث بالسمين . ولعزف الكل على وتر الثورة يتشدق بنشيدها وهو من ألد أعدائها..!
* نعم.. الاختلافات والنزاعات والانشقاقات والمصالح الحزبية والمكاسب المادية والشو الاعلامى والتصوير فى الفضائيات والتصارع على كراسي الحكم وتنافر الأيدلوجيات وتباين النظريات والتخوين والتشويش والتحرش السياسى وعدم التجرد لوجه الله ثم لمصلحة الوطن العليا كلها قنابل موقوته انفجرت فى وجه الثورة والثوار عندما تنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم وجلسوا يلطمون الخدود ويشقون الجيوب كاالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ولا حل ولا عودة إلا بتوحيد الصفوف والوقوف صفا واحدا لاترى فيه عوجا ولاأمتا ضد الثورة المضادة حتى نسترد كرامتنا وحريتنا بل إن شئت فقل آدميتنا التي افتقدناها وإنسانيتنا التي حرمنا منها . يجب أن يعود الرماة إلى جبل الثورة يتبوءوا أماكنهم من جديد ليحموا ظهر الثورة والثوار ولتحرر مصر من الظلم والبغي والعدوان وليعود الوطن المخطوف إلى شعبه الملهوف...!