"أيها الإخوان في كل مكان.. ما زلنا في الميدان لا ينزل الرماة من على الجبل".. عبارة كرّرها كثير من أعضاء الجماعة على مسامع قياداتها عندما أعجبتهم كثرتهم، وظنّوا أنهم انتصروا وبدأوا في حصد المغانم بين المعركة والتي ما زالت على أشدها والثورة لم تنضج بعدُ حتى يقطفوا ثمارها؛ فخشي البعض أن تقطّع رؤوسهم التي انحنيت لحصد ثمار الثورة. كثير من الخبراء والمحللين يرون أن جماعة الإخوان المسلمين وكوادرها وقياداتها السياسية على وجه الأخص كرّروا نفس الخطأ التاريخي الذي ارتكبته فئة قليلة من المسلمين (رماة الأسهم) في غزوة أحد عندما غادروا جبل عينين قرب المدينةالمنورة، والذي أمرهم النبي بألا يتحرّكوا من فوقه حتى يحموا ظهور المسلمين من تسلل المشركين، وهو ما حدث بالفعل وقتلوا من المسلمين أعدادا كبيرة.
وعلى ما يبدو؛ فإن جماعة الإخوان لم تتعلّم من هذا الخطأ التاريخي، ونزلوا من فوق جبل الثورة -أو هكذا يعتقد البعض- وبدأوا في حصد المغانم من مجلس شعب والجمعية التأسيسية، فضلا عن النقابات والاتحادات الطلابية والعمّالية وأخيرا انتخابات الرئاسة بالدفع بالقيادي خيرت الشاطر كمرشح الجماعة لرئاسة الجمهورية دون أن يتركوا أي مناصب خالية لغيرهم من التيارات السياسية الأخرى.
البعض يعتقد أن الجماعة ورغم أنها تدّعي اقتداءها بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالسلف الصالح في مشروعها السياسي؛ فإنها لم تستوعب ذكاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه الذي لم يسارع لحصد المغانم بنفس الطريقة التي تسعى إليها الجماعة في الوقت الحالي.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى غزوة أحد عندما انتصر رسول الله على المشركين نصرا بيّنا لم يشُبه سوى مخالفة الرماة لأوامر النبي بعد مبارحة الجبل، هل فكّر الرسول وقتها في غزو مكة وفتحها، أم إن قواعد اللعبة السياسية كانت تقتضي الانتظار قليلا حتى يشتدّ عصب المسلمين ويقوى، ولم يغرّنه الانتصار الكاسح الذي حقّقه؟ هذا هو النبي السياسي، النبي المفاوض الذي يأخذ بالأسباب ويترك النتائج على الله عز وجل.
صُلح الحديبية هو الآخر دليل على ذكاء سياسي لنبي الله محمد ومرونة فائقة لقواعد السياسة المفصولة تماما عن أمور الدين إلا فيما يتعلّق بالأخذ بالأسباب وانتظار النتائج وتقبّلها مهما كانت؛ فقد عزم الرسول والأنصار في شهر شوال من العام السادس للهجرة على أداء العمرة في مكة، ولكنّ الكفار منعوه وأصرّوا على عدم الدخول، فشاور الرسول المسلمين في الأمر وبيّتوا النية على دخول مكة بالقتال، وبايعه المسلمون بيعة الرضوان الشهيرة على الموت فداء مكة، ولكن المشركين تراجعوا في اللحظات الأخيرة وطلبوا عقد الصلح.
كانت مفاجأة للصحابة أن الرسول قبل الصلح على الرغم من قدرتهم وقتها على دخول مكة عُنوة وفتحها؛ فإن رسول الله لم ينظر إلى ذلك المكسب القريب أسفل قدميه، بل نظر للمكسب البعيد وهو أولا أنه سيحقن دماء ضحايا كثيرين سيسقطون في هذه المعركة، والشيء الثاني أن هذا الصلح كان سببا في انتشار الإسلام داخل مكة بصورة واسعة وتصدع أركان العشائر الوثنية إلى أن انهارت تماما، ودخلها المسلمون بأقل خسائر ممكنة.
مشكلة جماعة الإخوان -بحسب بعض المحللين- أنهم لم يتحلّوا بالمرونة التي تحلّى بها رسول الله؛ فسارعوا لحصد مقاعد مجلس الشعب والنقابات والاتحادات الطلابية والعمالية وأخيرا الرئاسية دون أن يروا في ذلك استعداءً للأطياف الأخرى، وأن بعض الجهات المتحكمة في شئون البلاد ربما تستغل هذا النصر الظاهري في هزيمة الجماعة هزيمة نكراء.
هو رسول الله الدبلوماسي الفطن الذي كان يرفض أن يحارب أهل الشام والعراق الذين كان يحكمهم الروم وقتها؛ لأن فيها من المسيحيين مَن هم أقرب لكتاب الله رغم ما كان يلقى منهم من السوء الذي وصل إلى درجة قتل أحد رسله، وكان يوجّه آلة الحرب بدلا من ذلك إلى جيوش الفرس الوثنية، وهو في ذلك كان ينظر إلى نصر بعيد وهو انتشار الإسلام بينهم بالحسنى، وهو ما تحقق بالفعل.
لقد حملت جماعة الإخوان المسلمين شعار الدعوة ونموذج الإسلام السياسي، ولكنها لم تدرك على ما يبدو دروس وعبر هذا الإسلام السياسي، وهذا الرسول الدبلوماسي، واتخذوا ظاهر الاسم وليس مضمونه ونزلوا من فوق الجبل لحصد الغنائم؛ فقطعت رؤوسهم التي انحنت لجني ثمار ثورة رموا بذرتها ولم ينتظروا حتى تنضج، فهل يُدركون اللحظة الفارقة قبل أن يحين موعد الحصاد الحقيقي.