ما أن يحل يوم الثالث والعشرين من شهر يوليو كل عام ،حتى تنبرى أقلام تتحدث عن الثورة متراوحة ما بين التقريظ والتقبيح ،وهو أمر معتاد بالنسبة للأحداث التاريخية الضخمة وعمالقة الزعماء ،والتاريخ حمّال أوجه ، بحيث قد يعجب من ليست لهم خبرة بهذا المجال : كيف يستطيع المداحون أن يجدوا عشرات الأمثلة على ما يدفعهم إلى المدح ،وكيف يجد المهاجمون بدورهم عشرات الأمثلة للذم والنقد السلبى ؟ لكن المتمرس بالمجال لا يعجب لذلك ، لأننا هنا أمام الفعل الإنسانى الذى يتراوح عادة ما بين خير وشر ، أبيض وأسود ، مع غلبة فى هذا الجانب أو ذاك ،وهو الأمر الذى نوهنا به ربما أكثر من مرة .. فحقيقة أنا لا أستطيع أن أخفى مشاعر متدفقة من الحنين الممتزج بالإعجاب والفخر والتقدير ، كلما عرض التلفزيون مقطعا لخطبة لجمال عبد الناصر خاصة ببعض المواقف ، وبالذات إذا تعلقت بمواقف مضادة مما نعيشه فى زمننا المعاصر ، أو أغنية وطنية مما كان يتردد فى ذلك الزمان. وفى الوقت نفسه ، لا استطيع أن أخفى شعورى بالحزن والأسى إذا تذكرت – على سبيل المثال -كيف أطيح بأعظم جريدة يومية كانت فى مصر ، بل وفى الشرق الأوسط ، ألا وهى جريدة ( المصرى ) ،وكيف شُنق مفكر فذ مثل سيد قطب ، بغض النظر عما يمكن أن يكون لك من بعض آرائه من موقف مخالف ؟! لكن ما يلفت نظرى هذه المرة هو موقف النظام السياسى القائم من مسايرة أو مغايرة لما انتهجته الثورة من مواقف ، مع التسليم بأن الزمن إذ يتغير ،وتتباين الأحداث والوقائع ، فلابد أن ننتهج ما هو أنسب ، بغض النظر عما إذا كان هذا مسايرا لما سبق أو مغايرا . ومع ذلك فالمتابع لتطور الأحداث فى مصر عبر الثلاثين عاما الماضية ، سوف يلاحظ عجبا حقا ، مما يشير إلى غباء سياسى صارخ ، عندما نرى الحفاظ على ما كان يشكل صفحات سوداء لثورة يوليو ،وهجر ومغايرة لما كان يُعد صفحات بيضاء ومشرفة لها ،وهو المنطق العكسر للتاريخ ، فالمولى سبحانه وتعالى قص لنا الكثير من وقائع الماضى ، مشفعا كل موقف بدعوة لنا إلى الاتعاظ والاعتبار ،وهو الاسم الذى اختاره ابن خلدون فى تسمية كتابه عن التاريخ باعتباره " مواعظ واعتبار " !! خذ عندك على سبيل المثال ما اقترفته الثورة من إثم كبير بتأميم الصحافة عام 1960،والتى حاولوا أن " يُجمّلوا " هذا بالقول بأن العملية كانت عملية " تنظيم " ، تماما ، مثلما تم " تجميل " هزيمة يونيو بتسميتها " بنكسة " يونية . لقد كانت الصحافة المصرية من أهرامات مصر العصرية حقا ، ولو توقف الإنسان أمام العلامات المضيئة والعمالقة الذين قادوا الصحفة المصرية عبر نصف القرن السابق على ثورة يوليو لما كفاه كتاب ضخم مما يشرف ويذهل حقا . وأن تتحول الصحف إلى " إدارات حكومية " ، بغض النظر عن عمليات الالتفاف والتجميل بالزعم بأنها تابعة للاتحاد القومى ، ثم الاشتراكى ، فمجلس الشورى ، فهى ستائر تخفى الحقيقة العارية ،وهى أنها أصبحت إدارات حكومية ! وعندما يتيقن رئيس التحرير أن تعيينه يكون من قبل السلطة ،وكذلك كل من يعمل فى الصحيفة ، فهذا يشكل خنجرا مسموما فى ظهر حركة الفكر الذى لا يصح وينمو ويزدهر إلا إذا انطلق من خالص عقل الكاتب وقلبه هو ، دون نظر إلى ذهب المعز وسيفه ،وعندما تخلو الساحة الفكرية ممن يرون رأيا مخالفا ،وتمتلئ بجموعى كذابى الزفة والمافقين ، فلابد أن يصيب العقل الوطنى العام والموجه خلل مؤسف ومرض عضال !! وصحيح أن النظام الحالى قد فتح الباب لصحف خاصة كثيرة استطاعت أن تنتزع مساحات واسعة من حرية التعبير ، لكن ما تزال الدور العريقة العملاقة التاريخية الأهرام ، وروز اليوسف ودار الهلال والجمهورية وأخبار اليوم فى يد الدولة ،وهى التى تحظى بفرص أوسع للتسويق والتزود بالإعلانات ،وقوة التأثير على مجريات الأمور ، فمقال فى جريدة الأهرام مثلا من مركز مهم فيه لأحد مسئوليه ، أو حتى تحقيق صحفى ، يكون له أثره الواضح ، على عكس الأمر فى سائر الصحف الخاصة ،فى الغالب والأعم ، ذلك لأن كل مسئول يعلم علم اليقين أن صحف الدولة عندما تتهم ، فمعنى ذلك أن موقعه فى خطر ،وربما يكون الأمر عكس ذلك بالنسبة للصحف الخاصة ، فيكون النقد الموجه إلى المسئول موجبا للرضا الأعلى ، إذ أن سخط " المعارضة " – حيث يسمون كل صحيفة غير حكومية بأنها معارضة – أمر موجب للرضا الحكومى ! وانظر كذلك إلى " المحاكم الاستثنمائية " التى تُشَكّل للخصوم خاصة ، فهى من بدع الثورة ،ولا أنسى أبدا ما كتبه خالد محيى الدين ، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة فى مذكراته ، من أن زميله صلاح سالم قد " ورطتهم " وزعم فى خطبة عامة أنه تم ضبط مؤامرة من قبل مجموعة من رجال العهد الملكى والباشوات ، مما أوجب تشكيل ما سمى بمحاكم الثورة ،والتى كان فيها القاضى هو أيضا الخصم ،وحمل كلام خالد أنه لم تكن هناك مؤامرة ولا يحزنون ! من يومها أصبح هذا نهجا معروفا عن النظام الحاكم فى مصر ..إذا أراد أن يتخلص من خصومه ، لا يجرؤ على المواجهة الفكرية ،ولا يجسر على التحاكم أمام القضاة الطبيعيين ، بل لابد من محاكمات استثنائية حتى يتم لهم ما يريدون ،وتنعدم فرصالنقض والمراجعة ،وهو الأمر القائم حتى كتابة هذه السطور !! وكان من الخطايا أيضا المحو الكلى لأى شكل من اشكال التعددية ، والتى هى " طبيعة بشرية " تتسق مع ما فطر عليه الإنسان من اختلاف وتباين بين كل فرد وآخر ،وهو الأمر الذى أُفرد له علم ضخم فى علوم النفس اسمه " سيكلوجية الفروق الفردية " ،ونصت عليه آيات قرآنية متعددة ،فإذا بوعاء سياسى واحد يحكم مصر كلها ، كان هو هيئة التحرير ، فالاتحاد القومى ، فالاتحاد الاشتراكى ،رغم التنادى على مستوى العالم كله بالتعددية ،وكيف أنها جوهر النظام الديمقراطى ،وكذلك تداول السلطة ، لكن يتخفى النظام وراء أحزاب كرتونية ، توهم بوجود التعددية ،وهى منها براء ،بفعل قوانين وإجراءات تخنق حركتها ليظل حزب الحكومة صورة معدلة من الاتحاد الاشتراكى ، بكل ما تضمنه من تسلط ،وفتح الأبواب لمواكب النفاق ،وقصر الرضا والحظوة فى المواقع العليا على الأعضاء! تغيرت الدنيا كلها ، لكن النظام الحالى مصر على الاحتفاظ بهذه الخبرات التى زرعتها ثورة يوليو ، مع الإقرار بأن هذه الخبرات تمثل وجهها غير المضئ !! أما وجه الثورة المضئ ، فالنظام الحالى قد أشاح عنه ليقف مواقف عكسية ،وساعتها يتذكر التاريخ ويرد على مثلنا بأن الدنيا تغيرت ،ولا يمكن أن يستمر فى ما كانت ثورة يوليو سائرة عليه ، فهم يأخذون ببعض الكتاب ولا يأخذون ببعضه الآخر .. فالانحياز إلى المصالح العروبية كان أحد أوجه الثورة المضيئة ، مع التسليم بأن غلوا كان يشوب بعض المواقف ، لكن يظل التوجه فى حد ذاته سليما ، بل وواجبا، وهو مع الأسف توارى كثيرا ،ويصعب علينا أن نسوق أمثلة لذلك ، يكفى عمق مصر الاستراتيجى : السودان ، الذى تركناه نهبا للاقتتال بين الجنوب والشمال ، حتى أوشك الأمر أن ينتهى إلى الانفصال بعض شهور قليلة ،والشئ نفسه بالنسبة لدارفور التى لا نستبعد أن تنفصل ، لا قدر الله ! ويطول بنا المقام لو اشرنا إلى الموقف من حرب إسرائيل على لبنان وغزو أمريكا للعراق ،وحرب إسرائيل على غزة ، بل إن الأمر تجاوزالسلبية إلى علامات شك قوية توحى ، لا نقول بمشاركة ،وإنما ربما بتسهيلات أو علم مسبق أو مشاركة غير مباشرة ، أو الإحجام عن المساعدة للجانب العربى ،ولو فى صور إنسانية اساسية . والشئ نفسه بالنسبة لإفريقيا بصفة خاصة ، فهناك كثير من المواقف التى تؤكد كيف كانت مصر هى القائدة بالفعل للكثرة الغالبة من دول إفريقيا ،وفأصبحنا ندير لها ظهورنا ، فتكثر الزيارات الرسمية فى كل صغيرة وكبيرة إلى الشمال ..أوربا ،وتندر ، إن لم تنعدم، الزيارات الرسمية على المستوى الرئاسى إلى دول إفريقية ،وخاصة منذ عام 1995، حيث كانت محاولة الاعتداء على رئيس الدولة ،وها نحن اليوم نكاد ترتعد فرائصنا خوفا وهلعا من الموقف غير الودى منا من قبل دول حوض النيل وخاصة دول المنبع ، فى وقت تتزايد فيه احتياجاتنا إلى مياه النيل . والشئ نفسه بالنسبة إلى مؤتمرات القمة الإسلامية ، حيث قلما نشهد حضورا رسميا مصريا على مستوى رئاسة الدولة ، فى الوقت الذى لا نجد غيابا أبدا ، بالنسبة للدول الأوربية ، ومنطق المصلحة نفسه ، لا أى شئ آخر يقول بضرورة الترابط أكثر مع الدول الآسيوية والإفريقية. وحدّث ولا حرج عن الكثير مما يمكن أن يقال بالنسبة للعالم العربى ..إن ما كان من غلو فى بعض المواقف ايام ثورة يوليو ، ما كان ينبغى أن يذهب إلى العكس تماما ،وكثيرا ما نردد أن التعاون والمساندة والتآزر لا تعنى بالضرورة" الحرب " ، حيث أن هذه هى الدعوة المؤسفة كلما كتب مثلى ،وغيرى عن مثل هذا الجانب ، بأننا لا ينبغى أن نحارب نيابة عن أحد ، ذلك أن أحدا لم يطلب هذا ،وصور التعاون والمساندة والتآزرلا تعد ولا تحصى ، فالدول الأوربية على سبيل المثال تعاون وتساند وتؤازر إسرائيل ، فهل كان ذلك عن طريق القتال والحرب ؟ ويطول بنا المقام لو رحنا فى تعداد الجوانب المظلمة فى ثورة يوليو ،وكيف يحافظ النظام الحالى على استمرارها ،وعلى العكس من ذلك ، أدار ظهره لكل ما كان مشرقا وإيجابيا ،ولو شئنا مؤشرا للحكم على رشد تفكيرإنسان ، فانظر إلى موقفه من خبرة الماضى : ماذا أخذ وماذا ترك ؟ والأمر بالنسبة بالنسبة للدول والنظم السياسية..!