مشهد مذهل حكته كتب التاريخ عن القائد الفذ خالد بن الوليد.. أتمني أن تتأملوه معي.. ولكن قبل أن نتعرض لذلك المشهد.. أذكر نفسي وأخواني بخالد ساعة حدوث هذا المشهد. يستقر موقع خالد من قريش زعيما ً لبني مخزوم أصحاب القبة فيهم – مجتمع الجيش والأعنة – أي قيادة الفرسان في حربهم.. والذين كانوا في ثروتهم وعدتهم وبأسهم أقوى بطون قريش إذا انفردت بطونها وإن تنافسوا الزعامة مع غيرهم.. وكانوا كما يقال يحوزون أوفى نصيب من حمية السيادة العربية في الجاهلية. وقد حارب خالد الإسلام مع قومه.. فشارك في أحد.. فكان لسرعة بديهته وبراعة حركته أثرها في أن غير هزيمة قريش إلي نصر.. فطوق بخيله جيش المسلمين لما انشغل بالغنيمة وأوقع الهزيمة بهم. ثم اشترك في موقعة الخندق فكلفته قريش أن يصمد للنبي صلي الله عليه وسلم إذا التحم القتال.. وأسندت إليه كتيبة غليظة منهم لأداء هذه المهمة. ثم أرسلته قريش علي رأس جند ليتصدي للمسلمين في الحديبية.. وإن لم يقع قتال. ثم أسلم خالد. كان أول ما شارك فيه سرية مؤتة بعد شهرين فقط من إسلامه.. حيث تولى على البديهة قيادة الجيش بعد مصرع قادته الثلاثة.. فانسحب بالجيش بخطة عبقرية جعلت النبي صلي الله عليه وسلم يخلع عليه اللقب الذي اشتهر به "سيف الله المسلول". ثم كان صلي الله عليه وسلم يعرف له قدره ومكانته حتى قال خالد "كان لا يعدل بي أحدا من أصحابه". فاسند إليه قيادة كتيبة من كتائب الفتح الأعظم بطشت بصديق الأمس عكرمة بن أبي جهل. وأسند إليه قيادة الفرسان في غزوة حنين ثبت بها ما ثبت وأصيب إصابات شديدة فيها. وجاءت حروب الردة ووقفت مكةوالمدينة خلف خليفة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) تدافع عن الإسلام في مواجهة جزيرة العرب كلها التي ارتدت بصور مختلفة عن الدين. وكان خالد رضي الله عنه في الحومة من هذه المعمعة.. وكان له الحصة الكبرى فيها ومنها وقعته الكبرى مع مسيلمة بعد هزيمة قائدين كبيرين منه. شهد مع الصديق شأنه شأن غيره من الأبطال واقعات مانعي الزكاة علي أعتاب المدينة ونصر الله الصديق عليهم.. ثم انطلق على رأس جيشه إلي بني أسد.. حيث قاتل طليحة في معركة هائلة نصره الله فيها.. وفر طليحة رغم ما اشتهر به من شجاعة وجلد. ثم طارد فلول المرتدين حتى أدركهم وقد أحاطوا بأم زمل – متنبئة أخري مثل طليحة - فدار بينهم قتال حار حتى جعل خالد مئة من الإبل لمن يعقر جملها وانهزمت أم زمل.. فانطلق إلي مالك بن نويرة في بني تميم.. ثم كانت وقعة اليمامة التي فقأ الله بها الردة وقضي عليها. وهكذا قام خالد وحده بأوفر سهم في حروب الردة وسجل في سجل المفاخر الإسلامية شيئا عظيما. ثم انتقل إلي حروب العراق.. وقد أرسله الخليفة علي رأس أحد جيشين إلي هناك وأمر بإعطاء قيادتهما لمن يصل الحيرة قبل أخيه. فانطلق رضوان الله عليه فخاض ضد الفرس وعرب العراق خمس عشر معركة لم يهزم ولم يخطئ ولم يخفق في أيها.. وإنما انتصر فيها جميعا حتى دانت له العراق من شمالها إلي جنوبها ومن شرقها إلي غربها. واستقر في الحيرة شهورا حتى جاءه أمر الصديق بالمسير إلي الشام لينسي الروم وساوس الشيطان به كما قال الصديق. وهناك شارك في أعظم فتوحات الشام وقاد أعظم معارك المسلمين ونصره الله فيها – معركة اليرموك – وهكذا دانت الشام للمسلمين كما دانت العراق. قاتل بكل وسائل الحرب في عصره فقاتل بالكمين والكمينين وقاتل بدون أكمنة وقاتل بالجيوش.. كما قاتل بالكراديس وقاتل بالاخمسة وقاتل كل أنواع القادة والجيوش فأجاد في كل أحواله وانتصر. سبق اسمه وهيبته جيشه فقاتل بهما قبل أن يقاتل بسيفه.. قال صاحب دومة لما سمع بقرب مجيء خالد: "أيها الناس أنه خالد.. لا أحد أيمن طائرا ً وأصبر علي حرب منه.. ولا يري وجه خالد قوم قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه فطاوعوني وصالحوا القوم". وقال له أحد قادة الروم "يسمونه جرجة" وقد طلبه بين الصفين يحادثه "هل أنزل ربكم علي نبيكم سيفا فاعطاكه.. فلا تسله علي أحد إلا هزمته". كان هذا خالد بن الوليد ساعة حدوث قصتنا.. قائد من أعظم قادة التاريخ بل قل هو أعظمهم.. فكل من اشتهر من القادة المبرزين له هنات إلا خالد.. لم يحفظ له التاريخ هنة واحدة.. وإنما سطر له صفحات كلها نسيج من المجد والفخار. هذه المقدمة الطويلة هامة لنستحضر من خالد في نفسه وفي نفوس الناس عندما كان عاملا لأبي عبيدة علي حمص بعد انتهاء المعارك وزاره الأشعث بن قيس ومدحه.. فأجازه خالد من ماله بعشرة آلاف.. وأجاز آخرين من ذوي البأس وذوي الشرف وذوي اللسان وهي عادة كانت شائعة في العرب.. ولكن هذا البذل عظم علي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأرسل إلي أبي عبيدة: "أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته وبنزع عنه قلنسوته حتى يعلمهم من أين أجاز الأشعث.. هل من مال الله.. أم من ماله.. أم من إصابة أصابها فإن زعم أنه من إصابة أصابها.. فقد أقر بالخيانة وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف". وأمر أبا عبيدة أن يعزله علي كل حال وأن يضم إليه عمله وأن يقاسمه ماله. صدع أبو عبيدة بالأمر، وجمع الناس وجلس علي المنبر ودعا بخالد فسأله: يا خالد.. أمن مالك أجزت عشرة الآلاف أم من إصابة؟!!. وعقدت المفاجأة لسان خالد فلم يجب.. وأبو عبيدة يكرر السؤال المرة تلو المرة. فوثب بلال مؤذن الرسول صلي الله عليه وسلم وقال له: "أن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا". ثم تناول عمامته ونفضها وعقله بها.. وخالد مستسلم لا يمنعه وسأله: ما تقول أمن مالك أم من إصابة؟!! فقال: لا بل من مالي فأطلقه وعممه بيده.. وهو يقول: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.. ثم قوسم ماله حتى نعليه. هي قصة كما قلت مذهلة.. إذ كيف يستسلم هذا القائد الأسطوري لأمر قائده دون أن يخطر بباله اعتراض ولا تمرد.. ولو فعل لأرعدت واحمرت له أنوف. ولكنه رضي الله عنه كما كان قائدا فذا.. كان أيضاً جندياً فذا. فاللهم أرض عن خالد وعن صحب نبيك الأبرار.. واحشرنا معهم وإن لم نعمل بأعمالهم.