انتهينا في مقال سابق إلى أن حملة نابليون الحضارية -وأميل إلى استخدام هذا الوصف لها- فصلت تاريخ العالم الإسلامي إلى مرحلتين: الأولى تلك التي سبقت الحملة والتي كانت من تجلياتها انقسام المجتمع إلى "دولة مهزومة"، ممثلة في سلطتها السياسية، و"مجتمع منتصر" ممثلا في شيوخه وفقهائه وعلمائه، وهم التعبير الحركي لحضارة الأمة وثقافتها: إذ هُزمت الدولة وسقطت دمشق والشام أمام التتار، وانتصر المجتمع ممثلا في ابن تيمية وأتباعه (1263 - 1328). وبالمثل سقطت دولة "الصالح إسماعيل" أمام الصليبين في دمشق، وانتصر المجتمع ممثلا في العز بن عبد السلام، والمثير للتأمل هنا أن الأزمة التي وقعت بين السلطة وبين العز آنذاك في بدايات القرن الثالث عشر، كانت شديدة الشبهة، بالأزمة السياسية والفقهية التي حدثت بين النظم العربية الحاكمة، وبين بعض النخبة الوطنية وجماعة العلماء التي خلفتها الحرب الأولى والثانية على العراق (1991 2003)، ففي الأولى وقعت بسبب اعتراض العز على قرار الصالح إسماعيل السماح للصليبيين بدخول دمشق لشراء أسلحة لقتال المسلمين في مصر، والثانية حدثت بسبب احتجاجات المثقفين وعلماء الأمة على موافقة الأنظمة العربية على استخدام أراضيها من قبل القوات الأمريكية لمهاجمة العراق. وفي القاهرة قاد العز بن عبد السلام المعارضة من أجل إصلاحات دستورية وسياسية واسعة، وأضطر الصالح أيوب إلى النزول عند إرادته، بإعادة النظر في الوضع القانوني والدستوري للأمراء "المماليك" في ذلك الوقت، فيما عرف تاريخيا بعملية "بيع الأمراء". وفي ليبيا هزمت الدولة العثمانية أمام الغزو الإيطالي، وانتصرت المجتمع الليبي ممثلا في الحركة السنوسية بقيادة الشريف أحمد السنوسي، وبالمثل في الجزائر والسودان، عندما هزمت الدولة أمام الفرنسيين في الأولى، وينتصر المجتمع الجزائري ممثلا في جمعية علماء المسلمين، ورمزها التاريخي عبد الحميد بن باديس، ونفس القول على الثانية بشأن الدور الجهادي للحركة المهدية في السودان. ولعله من الأهمية هنا، الإشارة إلى أن المجتمعات التي كانت بعيدة عن مركز الزلزال النابليوني "مصر" ظلت مجتمعات أقوى من الدولة، وهي ذات الصفة التي كان عليها حال العالم الإسلامي قبل عام 1798. ما يعني أن حملة نابليون لم تؤثر حضاريا وثقافيا في العالم الإسلامي كله، كما يحاول العلمانيون العرب الإيحاء بأنها كانت كذلك، وإنما في مصر و في المناطق التي وطئها من الشام وبدرجة أقل فيما هي أبعد من ذلك. لم يكن المجتمع المصري حتى قبيل صدمة نابليون الحضارية "مجتمعا مهزوما"، كان يعيش تحت مفعول "سكرة" انتصاراته المتلاحقة على التتار والصليبيين، كان يعاني فقط من ظاهرة تعدد السلطات السياسية المأزومة والمهزومة أيضا، وهي مرحلة تختلف تماما، عن مرحلة ما بعد حملة بونابرت، فالأخيرة ألحقت الهزيمة بالمصريين جميعهم "مجتمعا ونظاما سياسيا". لقد كتب عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه، وببراءة شديدة، مسجلا صدمته وعدم قدرته على تصديق ما شاهده في معامل الفرنسيين الكيميائية، فاعتبرها أعمالا من "أفعال الجن والشياطين"!! وتجلت مقولة ابن خلدون المتعلقة بولع المغلوب بالغالب المنتصر، وهي درجة لم تبلغها أمة من الأمم إلا إذا هُزمت نخبها الفكرية والسياسية أيضا، واعتقدت الكمال في من غلبها، وإنزاله منزلة مصدر "الوحي الإلهام"، وأنه لا فلاح ولا نجاة إلا في تقليده وأتباع سننه شبرا بشبر وذراعا بذراع، في حلوه ومره، خيره وشره، كما كان يعتقد طه حسين. هاشم صالح، وهو سليل صدمة الحداثة الفرنسية في الشام، وتلميذ حفيد الثقافة الفرنسية بالجزائر، وفي لحظة صدق نادرة، يصف هذه الحالة وصفا يكاد يكون دقيقا في مجلة الوحدة (عدد سبتمبر عام 1994) بقوله: "كالفلاح الفقير الذي يقف خجلاً بنفسه أمام الغني المؤثر، يقف مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي، وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير اللائق و(لغته غير الحضارية)، و(دينه المتخلف) ويستحسن المثقف الغربي منه هذا الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر حتى ليكاد يلعن نفسه أو يخرج من جلده لكي يصبح حضارياً أو حداثياً مقبولاً!". ولذا.. فعندما أنكر محمد عبده (1849 1950)، وجود الملائكة والشياطين والجن، وفسر ذكرها في القرآن الكريم، باعتبارها من قبيل "الأمثال والاستعارات" ونفى أن تكون "موجودات مستقلة"، كان حينذاك يتصرف بروح الهزيمة، والإحساس بالدونية أمام "عقلانية" الغرب، فالرجل بلا وعي منه ساءه أو شعر ب"الخجل" أن يتحدث عن "غيب" لن يقبله "المنتصر - العقلاني" الذي يعتقد عبده فيه "الكمال" والأحق بالإتباع والتقليد. وعندما كتب علي عبد الرازق -وهو الشيخ الأزهري- كتابه "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925، كان متأثرا ب"عقدة تفوق" النظام السياسي العلماني الغربي، وكل ما كُتب لاحقا من أعمال مثيرة وصاخبة مثل "في الشعر الجاهلي" لطه حسين عام 1926 والفن القصصي في القرآن الكريم عام 1946 لمحمد أحمد خلف الله، وانتهاء بما كتبه نصر حامد أبو زيد ما بين (1992 1995)، كانت جميعها تعبيرات عن "توابع نفسية" لروح الهزيمة التي ألحقها نابليون بالمصريين مجتمعا ونظاما سياسيا عام 1798. والحال أن هذه المرحلة أسدل عليها الستار تقريبا مع بداية أزمة أبو زيد في منتصف التسعينيات، والتي كشفت غياب "الشرعية العلمية" عن كل هذه الاتجاهات وانتهاء بأزمة "وليمة لأعشاب البحر" في نهاية القرن العشرين التي كشفت "البعد السوقي" المتخفي في تلابيب "الحداثة" وصدمت المجتمع المصري المحافظ، بأدبيات مسفة ومبتذلة، نشرتها الدولة، على نفقة دافع الضرائب في مصر. ومع أحداث سبتمبر عام 2001م، بدأت ظاهرة "الأوربة" في المجتمع المصري -والعربي كذلك- في الأفول، حيث تبنت واشنطن حرب الأفكار على العالم الإسلامي، وهي الإستراتيجية الجديدة التي لاقت هوى في نفوس "النخب المتأوربة" -التي عاشت متزامنة مع الصعود الإسلامي في نهاية القرن الماضي العشرين- والتي كانت ترى في الحركات الإسلامية، أكبر عائق أمام تمرير مشروعها التغريبي في المنطقة، ما حملها على التخلي عن "الأوربة" والتحول إلى "الأمركة". ومن الأهمية هنا أن نشير إلى أن بين الاثنين فارقا كبيرا، فالأولى خاصة في مرحلة ما قبل "الصحوة الإسلامية" كانت في أغلبها نوعا من "العفوية السلوكية"، التي تصدر عن عقل معلق فيمن يعتقد فيه التفوق والكمال، أما الثانية فإنها شيء مختلف، أقرب ما تكون لفكرة "الحرب بالوكالة" عن الآخر، ضد قوى في الداخل من مصلحة الطرفين: "الموّكل والوكيل" تصفيتها، وهو ما حدث في أفغانستان والعراق، ويحدث في سوريا ولبنان والكويت ودول عربية وإسلامية أخرى. هذه الإطلالة التاريخية، في تقديري بالغة الأهمية، لفهم ما حدث في مصر خلال المئتي عام الماضية، وما يحدث الآن في منطقة الخليج العربي سيما في المملكة العربية السعودية والكويت، من محاكاة تبدو لنا ساذجة وطفولية للنموذج المصري، الذي انتهى تقريبا منذ عام ، من قبل ما يسمون ب"الإسلاميون الليبراليون" أو "الليبراليون الجدد". ونستكمل الحديث غدا إن شاء الله تعالى [email protected]