بعد سلسلة المقالات التي كتبها هنا الصديق والزميل الأستاذ فراج إسماعيل رأيت أن من الأهمية أن أنشر ثلاث مقالات متتابعة تحمل تقديري الشخصي لمحطات تاريخية مهمة في مسيرة الأمة الحضارية ومصر في القلب منها.. وأرجو من أصدقائي القراء أن يطلعوا عليها بتأمل وفي تؤدة لعلها تبلغ في القلوب مبلغ ما ارجوه منها من إعادة الأمل إلى النفوس المتعبة واليائسة، معتذرا عن صعوبة اللغة التي استخدمتها إذ اقتضت ذلك طبيعة الموضوع وامتداده ما بين الفكري والثقافي والتاريخي والحضاري، وهي خلطة لا تسمح بالاريحية ولا بالتبسيط : (1) كان ابن خلدون رحمه الله، شديد الوعي بدور "الصدمة" التي تخلفها الهزيمة الحضارية، على شعور الأمة المهزومة بقيمتها ووزنها الحضاري. إذ لا توظف هذه "القيمة" وهذا "الوزن"، والحال كذلك، في إحياء الشعور الجماعي بضرورة الاستنهاض بها، وإنما تتحول إلى "ضحية" الاستسلام لروح الانكسار، والذي تتكاثر تجلياته وتتوالد، على نحو ربما يكون من الصعب السيطرة عليه، طالما ظلت الأجيال المتعاقبة، تراوح مكانها عند ذات "الصدمة الأولى". هنا واستهلالا نرى أنه من الضروري التمايز بين معادلتي "الإرث الحضاري" و"الوريث الإنساني"، فالأولى يظل تواصلها وحضورها التاريخي، مرهونا على دورها الرسالي، الذي يتأسس على ثنائيتي: "الحق - الباطل" و"العدل - الظلم"، وهي المعايير التي لا يُسأل عنها إلا "الوريث"، القيّم على إعلاء قيم الحق أو معايير الهوى: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" هود 117. فالحضارة في صعودها أو سقوطها هي صنيعة الإنسان ذاته، في فساده أو صلاحه، غير أن النخبة في العالم الإسلامي، ومنذ ما يزيد عن مأتي عام، ترى في مراجعتها لذاتها، عكس هذه السنة الاجتماعية الثابتة، وتسلك سبل المراجعة، على طريقة نقد جدلية "ماركس" المادية لنظرية "هيجل"، عندما زعم الأول أنه أعاد اعتدال الثاني على قدميه!. المثقفون العرب عمدوا إلى تبرئة الإنسان العربي أو المسلم من "خطيئة الهزيمة"، وأحالوها إلى "الحضارة العربية الإسلامية"!! باعتبارها حضارة "بدوية" ناقلة لمنظومة قيم القرون الوسطى "المظلمة"، والتي باتت غير "مؤهلة" للتعايش مع الحداثة!! وظل مفهوم الحضارة في خطاب النخبة، فضفاضا وفسيفساء واسعة تتيه فيها العقول وترتبك، وتثير من الشكوك والتساؤلات أكثر مما تجليه من إجابات والتباسات، وكأنها تناور... تريد شيئا تخشى الإفصاح عنه. والمشكلة أن هزيمة العالم الإسلامي العسكرية على يد نابليون بوناربرت (1798 - 1801)، لم تكن السبب الوحيد في الشعور الجمعي بالانكسار، والذي امتد ليشعل الحرائق حول "الحضارة الإسلامية"، وإنما بسبب الفارق في تقدير الطرفين المسلم والفرنسي، لطبيعة المواجهة، فالأول اختصرها باعتبارها مواجهة نمطية تشبه شقيقاتها التي عاش العالم العربي والإسلامي تجربتها، في سنوات قريبة منها، أي اختصرها في شقها العسكري: مواجهة مثل كل المواجهات بين جيشين، والأيام دول، والحرب كر وفر، نصر وهزيمة، فيما اعتبرها الطرف الثاني "الفرنسي"، مواجهة حضارية، إذ اصطحب مع الجيش المقاتل، جيشا آخر من العلماء والأدباء والمفكرين. كان وعي الفرنسيين أن مشروعهم الحضاري، أمضى في إلحاق هزيمة طويلة الأمد بالجانب الإسلامي، إذ إن تدمير القدرات العسكرية ل"العدو"، يمكن تعويضه وتستأنف المواجهات ما يعني تعليق نتائج الحرب، وارتهانها إلى المفاجئات والقدرة على الصمود. كانت المفارقة كبيرة، إذ لم تحدث الهزائم العسكرية التي لحقت بالعالم الإسلامي في أوقات متقاربة في القرن الثالث عشر مثل "الصليبية الخامسة" عام 618 ه - 1221 م بقيادة "جان دي برس" والحملة "الصليبية السابعة" عام 648 ه - 1250 بقيادة لويس التاسع ومن بعدها كارثة سقوط بغداد على يد هولاكو المغولي عام 656 ه - 1258، وهي كما نلاحظ لا يفصل بينها إلا سنوات قليلة، لم تحدث "صدمة حضارية"، أحالت المسلمين كما هو حادث اليوم، إلى جلد الذات الحضارية والاستعلاء عليها، والوقف إجلالا وإكبارا لثقافة الغالب ومحاكاتها. إذ لم يكن للصليبين أو للمغول في ذلك الوقت، أية إبداع حضاري، يفرض على الأخر احترامه أو التعلق به، وكانت الحضارة الإسلامية في ذات الوقت، بعيدة عن أية منافسة حضارية من أي من الأطراف والقوى الدولية التي كانت معروفة آنذاك. لا يعني ذلك أن العالم الإسلامي، كان مبرئا من المشاكل والأزمات، بل على العكس كان يعاني من أزمتين بالغتي الخطورة، الأولى على صعيد الوعي بوتيرة حراكه الحضاري، صحيح أن دمياطوالمنصورة وجزء من القاهرة في مصر سقطت في أيدي الصليبيين، فيما دمرت بغداد بالعراق على أيدي الوحشية المغولية واستولوا على الشام كاملا ورابطوا على حدود مصر في غزة، وإني لأدعو القارئ إلى الإطلاع على التفاصيل المروعة التي رواها "ابن كثير" في "البداية والنهاية" عن تدمير بغداد، والتي توحي بكل المقاييس العقلية والعسكرية والإستراتيجية بأنه لن تقوم للمسلمين بعدها قائمة أبدا، إلا أن المسلمين انتصروا في النهاية، وفي بعضها ألحقوا هزيمة مهينة بالصليبيين بأسرهم الملك الفرنسي ذاته "لويس التاسع" في إحدى القرى التابعة لمدينة المنصورة المصرية. الانتصارات كانت تعني في الوعي الجمعي المسلم، أنه ليس ثمة مشكلة أو أزمة داخلية، في عناصر إمداد الدولة بإمكانيات الحفاظ على وزنها الدولي أو الإقليمي، وهو الشعور الذي كشف زيفه "صدمة نابليون" في نهاية القرن الثامن عشر. والحال أن المسافة الطويلة -ما يزيد عن خمسة قرون- الفاصلة بين انتصار ببيبرس "المملوكي" على المغول عام 1277 م وهزيمة العالم الإسلامي على يد بونابرت عام 1798م، هي التي عمقت هذا الشعور الزائف، بعدم وجود مشكلة حضارية عند المسلمين، وحالت دون الدخول في مراجعة للعطاء الحضاري الإسلامي وقيمته وحيويته وقدرته على التواصل حتى ذلك الحين. كانت مجرى الأحداث تؤصل لهذا "الكسل" في مجال الاجتهادات العلمية والفقهية والاجتماعية، فالأزمة كما كشفتها الأحداث بالنسبة للمسلمين كانت "أزمة سلطة" وليست "أزمة مجتمع". وهي قراءة صحيحة لمجمل نتائج الصدام مع الآخر في ذلك الوقت، إذ كانت الدولة، ممثلة في "السلطة" ومؤسساتها الرسمية، تسقط وبسرعة أمام الغزاة، فيما يقاوم المجتمع الأهلي "أو المدني" -وهو التعبير الاجتماعي لحضارة الأمة وقيمها وثقافتها- ويقاتل وينتصر، بل ويؤثر في ثقافة "الغازي" أو "المحتل" وفي حضارته، إذ اعتنق المغول الإسلام، ونقل الصليبون بعد هزيمتهم ثقافة "المنتصر" الإسلامي إلى أوربا لتساهم فيما بعد في استنهاضها من تخلفها السياسي والحضاري. ونلحظ هنا أنه في الوقت الذي تُهزم فيه "النخب السياسية" في العالم الإسلامي، كانت "النخب الحضارية" إذا جاز التعبير، تقاوم وتنتصر، وهي الحالة التي عمقت من مشاعر ثقة المسلمين في تفوقهم الحضاري، وحالت دون بروز أية قوى ثقافية، تثير الشكوك حول قدرة هذه الحضارة على الصمود والتصدي، ومن ثم إحالتها إلى التقاعد والبحث عن بدائل "أكثر تطورا". وهذا هو الفارق بين المرحلتين، مرحلة ما قبل حملة نابليون والمرحلة التي جاء بعدها والتي لا يزال العالم الإسلامي يعيش تفاصيلها وكأنها مسرحية يعاد عرضها في المسرح على مدار الساعة. وغدا نستكمل الحديث إن شاء الله تعالى [email protected]