يدور جدل قانوني وقضائي حول موضع الكنيسة بالنسبة للدولة، وبالتالي وضع الرئاسة الدينية أمام القانون. والملاحظ أن الوضع الحالي أصبح خليطا بين الأوضاع المؤسسة على الشريعة الإسلامية والأوضاع المستحدثة والمؤسسة على القانون الوضعي. وبالعودة إلى التاريخ، في الفترة التي ساد فيها حكم الشريعة، سنجد أن الكنيسة تمثل مؤسسة المسيحية، وهي بهذا مؤسسة الطائفة المسيحية، وقد نظر إليها بوصفها المؤسسة التي ترعى الشئون الدينية وشئون الأحوال الشخصية للمسيحيين. وقد أوكل لها إدارة تلك الشئون، مما جعل للطائفة أو الجماعة المسيحية شأن خاص بها، يدار من خلال مؤسستها. وأصبح للجماعة المسيحية مساحة للإدارة الذاتية، تدير فيها شأنها الديني، ومعه الشئون الخاصة بالأحوال الشخصية، دون تدخل من الدولة. وأصبحت الكنيسة مؤسسة خاصة، تدير الشأن المسيحي طبقا لقواعدها الداخلية. وعليه كانت الرئاسة الدينية، هي رئاسة الطائفة التي تختارها الطائفة بالانتخاب، وتصبح هي الرئاسة المسئولة عن إدارة الشئون الدينية والأسرية للطائفة. وكانت الرئاسة الدينية هي التي تمثل المؤسسة أمام الدولة، ولكن الكنيسة لم تكن مؤسسة من مؤسسات الدولة، ولم تخضع للقوانين الإدارية للدولة، بل كانت خاضعة للوائحها الخاصة، ولكن في المجال المحدد لها فقط، وهو شئون العقيدة والعبادة والأسرة. وبهذا لا يمكن القول أن الكنيسة كانت أحد مؤسسات الدولة، أو أنها كانت تنظم من خلال الدولة. فالحادث أن الدولة كانت تعترف أولا بالطائفة، ثم توكل للكنيسة إدارة الشئون الخاصة بالطائفة طبقا لقوانينها الداخلية. وكان المهم في الرئاسة الدينية أن تكون مختارة من أبناء الطائفة، ولا تكون مفروضة عليهم. ومن خلال ما تضعه الكنيسة من قواعد ولوائح، كانت تدير الشأن الأسري لرعايا الطائفة. لذا كانت تسمى القواعد التي تتبعها الكنيسة باللوائح، فهي ليست قوانين، بل لوائح تصدرها الكنيسة من خلال مؤسساتها صاحبة الشأن، وتسري على رعايا الكنيسة دون غيرهم. لذا كان لكل طائفة لوائحها الخاصة، لأن كل منها يمثل بناءا مستقلا، ولم تنشأ أي كيانات منظمة للطوائف المسيحية كلها، فأصبح لكل طائفة لوائحها الخاصة. وفي ضوء تلك الممارسة لم تكن الرئاسة الدينية تعد موظفا عاما، فالرئاسة الدينية لم تكن جزءا من الدولة، لأنها أساسا لا تتبع النظام الإداري للدولة، ولم تخضع لإشراف جهة إدارية على شئونها الداخلية، والتزمت بشريعتها الخاصة، لذا لم تكن الرئاسة الدينية تعد موظفا عاما داخل الدولة، بل رئاسة دينية منتخبة من الطائفة التي تقوم بإدارة شأنها الديني والأسري. وكانت الكنيسة هي التي تضع لائحة الأحوال الشخصية، وهي التي تنفذها، وهي التي تقوم بالدور القضائي من خلال مؤسسة أو لجنة خاصة بذلك، أي أن الكنيسة كانت تمثل السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في الأحوال الشخصية للطائفة التي تديرها. لذا لا يمكن القول: أن الكنيسة كانت مؤسسة من مؤسسات الدولة، بل كانت مؤسسة مستقلة لها حق الإدارة الذاتية لشئون محددة سلفا، ومصرح لها من الدولة بالقيام بهذا الدور، طبقا لقواعد الشريعة الإسلامية. وعندما قامت ثورة يوليو، تم إلغاء محاكم المجالس الملية والمحاكم الشرعية، وبهذا سحبت الوظيفة القضائية من الكنيسة، وترك لها الوظيفة التنفيذية والخاصة بعقد مراسم الزواج. وفي نفس الوقت لم يفعل دور الكنيسة في التشريع، وفي تجديد لوائح الأحوال الشخصية للمسيحيين، منذ ما قبل ثورة يوليو، وكأن تلك اللوائح أصبحت جامدة، وجزء من أسباب ذلك، أن الدولة القائمة على أسس علمانية ووضعية، لا تعرف تلك الخصوصية، ولا تسمح لجهة ما أن تشرع لجزء من الوطن حتى وإن كان في قضية محددة. ولهذا تم تجميد اللوائح، حتى لا تفتح قضية ولاية الكنيسة على الأحوال الشخصية للمسيحيين. وطبقا لهذا الوضع الجديد، وفي ظل سيادة القوانين الوضعية تدريجيا، أصبحت الرئاسة الدينية موظفا عاما، وأصبحت الكنيسة أحد مؤسسات الدولة، وبالتالي أصبحت تخضع لما تخضع له المؤسسات العامة، ولكن نظريا فقط. فالكنيسة ظلت تدير شأنها الداخلي الديني والأسري، باستقلال كامل عن الدولة. ولكن ظهرت مشكلة التعريف القانوني لوضع الكنيسة ووضع الرئاسة الدينية. وعندما بدأت المواجهة مع أحكام القضاء، انزلقت القضية إلى أخطر نقطة لها، حيث أعتبر القضاء وطبقا للقوانين التي يعمل من خلالها، أن بابا الكنيسة هو موظف عام، ويجوز عزله وحبسه. وهنا ظهر القانون الوضعي، والذي لا يسمح لأي مؤسسة بأن يكون لها استقلال ذاتي، ولا يعرف معنى الإدارة الذاتية، ولا يعرف فكرة الحفاظ على خصوصية طائفة ما، من خلال استقلالها ببعض شئونها عن النظام العام، وهو ما تسمح به الشريعة الإسلامية، ولا يسمح به القانون الوضعي القائم على سيطرة الدولة على كل أوجه النشاط، وكل أنواع المؤسسات. ولم تعد المشكلة هي مشكلة لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين، بل أصبحت مشكلة تعريف وضع الكنيسة في النظام العام، وبالتالي تعريف وضع الرئاسة الدينية. فطبقا للقانون الوضعي، تعد الكنيسة مؤسسة عامة من مؤسسات الدولة، تخضع لرقابة الدولة الإدارية والمالية، وتعتبر رئاستها في حكم الموظف العام، القابل للعزل والحبس. وتصبح كل لوائح الكنيسة خاضعة للقانون العام، ويمكن الطعن في قانونيتها وفي دستوريتها، مما يجعلها لوائح غير مستقلة، وليس للكنيسة القرار الأخير فيها. وطبقا للشريعة الإسلامية، فإن الكنيسة هي مؤسسة مستقلة خاصة بطائفة بعينها، ينتمي لها أبناء الطائفة بإرادتهم ويختاروا رئاستها، وتدير الكنيسة شأنهم الديني والأسري طبقا لقواعدها المستقلة بالكامل عن النظام القانوني، وبالتالي تحاسب قرارات الكنيسة طبقا للوائحها، وليس طبقا للقوانين العامة. وهو ما يسمح للكنيسة بحماية خصوصية الطائفة الدينية، والحفاظ على كيانها وشريعتها. لقد كشفت أزمة قانون الأحوال الشخصية عن مأزق أكبر، يتعلق بوجود تداخل بين النظم المستمدة من القانون الوضعي وتلك المستمدة من الشريعة. كما كشفت عن أزمة كبرى، تتعلق بوضع الكنيسة ودورها، ودور ومكانة رئاستها الدينية، حيث أن القانون الوضعي يفرض هيمنة الدولة على الكنيسة، ويسحب منها ما أعطته لها الشريعة الإسلامية. مما يعني أن العلمنة وسيادة القانون الوضعي، سوف تطرق أبواب الكنيسة، وتنهي دورها في حياة الجماعة المسيحية. وتلك هي المشكلة، التي غابت عن الكنيسة والجماعة المسيحية في مصر.