تكرر هذا المشهد مرة أخري، زوجة كاهن تترك المنزل بسبب خلافات عائلية أو بسبب تحولها إلي الإسلام، أو الاثنين معاً، ثم يقوم الأقباط الغاضبون بمظاهرات، وتشترك الكنيسة في إعلان الغضب، وتقوم قوات الأمن بالقبض علي زوجة الكاهن، ثم تسلمها إلي الكنيسة، والتي تصدر بحقها حكماً بالتحفظ عليها في أحد الأماكن الآمنة التابعة للكنيسة، وبعيداً عن سلطة الدولة، ويتم التحفظ عليها في مكان غير معلوم، ولمدة غير محددة. وتباشر الكنيسة سلطتها في تأديب تلك الزوجة، ولا يعرف ما يحدث لها. بدأ هذا المشهد في عام 2005 مع السيدة وفاء قسطنطين، وأصبح مشهداً متكرراً، فإذا به يتكرر مرة أخري مع السيدة كاميليا شحاتة في عام 2010، ورغم أن المشهد الأول تسبب في تزايد منحي المواجهات الدينية في مصر، ووضع الكنيسة والدولة في موقف شديد الحرج، فإن الموقف يتكرر مرة أخري، دون أي إدراك للعواقب الوخيمة التي ستترتب عليه. تلك المشكلة ليست فقط وليدة غياب منطق دولة القانون، ولكنها أيضاً نتيجة للتفاهمات الجارية بين الدولة والكنيسة، والتي خرجت عن كل حدود متعارف عليها في العلاقة بينهما، وتجاوزت كل أعراف وتقاليد المجتمع. لقد أصبح التوافق بين الدولة والكنيسة، حول تأييد الكنيسة للنخبة الحاكمة، وتأييدها لمرشح النخبة الحاكمة في انتخابات الرئاسة، سواء كان الرئيس الحالي، أو وريثه العائلي، أو وريثاً سياسياً آخر، في مقابل تلبية بعض طلبات الكنيسة، أصبح هذا التوافق يحكم العلاقة بين الدولة والكنيسة بعيداً عن أي قانون. فما حدث يعد تسليماً لمواطنة مصرية إلي جهة ليس من حقها تسلم المواطنين، وليس لها ولاية قانونية أو قضائية علي أي مواطن مصري، حتي وإن كان مسيحياً، فيما يعد خرقاً لقواعد القانون الوضعي وخرقاً لقواعد الشريعة الإسلامية معاً. وإذا كان هذا المواطن مسيحياً تحول إلي الإسلام، فيُسلم للكنيسة لتفرض عليه العقاب الذي تراه، وتجبره علي العودة إلي المسيحية، فإن هذا يعد تجاوزاً لكل القواعد. لقد أصبحت العلاقة بين الدولة والكنيسة مضطربة، وتؤدي إلي تعميق الاضطراب المجتمعي الحادث بين المسلمين والمسيحيين، بل يمكن أن تصبح تلك العلاقة سبباً في المزيد من الانهيار في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، خاصة أن تلك القضايا لا يحكم فيها القانون، بل تحكمها تفاهمات الكنيسة والدولة بعيداً عن القانون. والمشاهد لما يحدث، يدرك علي الفور أننا بصدد لحظة انفجار محتملة، فإذا ثبت في يقين عامة الناس، أن المسيحي عامة، أو زوجة الكاهن خاصة، إذا تحوَّل إلي الإسلام، يمكن أن تتم إعادته للمسيحية بقوة سلاح الدولة، ومن خلال تنازل الدولة عن حقها في تطبيق القانون، إلي الكنيسة، فإن ذلك كاف لإسقاط أي شرعية ظاهرية للدولة، بما يعطي انطباعاً أن الدولة والكنيسة تتصرفان خارج إطار القانون، وخارج إطار قيم المجتمع. وهو ما يمكن أن يفجر غضباً شعبياً ضد الكنيسة، خاصة أن الغضب الشعبي الموجه للدولة والنظام الحاكم، يمكن أن يتحول سريعاً إلي غضب من الأطراف المتحالفة مع الدولة، والتي غالباً ما تكون أطرافاً يمكن الوصول لها أكثر من الدولة. ففي هذا التحالف بين الدولة والكنيسة، وما ينتج عنه من تصرفات تغضب العامة، يمكن أن يتحول كل غضب العامة نحو الكنيسة، وربما نحو الأقباط، وتصبح الكنيسة وهي شريكة في تلك التصرفات، بمثابة كبش الفداء عن كل ممارسات وأخطاء الدولة، ويمكن أن تتمادي الصورة، ويصبح الأقباط أيضاً في موضع كبش الفداء. والمتابع لما يحدث منذ عام 2005 يدرك علي الفور أن حالة الغضب الشعبي، والرفض الشعبي العام لمجمل الأوضاع التي يعيشها الناس، بدأت بالفعل تتسرب إلي داخل الحالة الدينية المحتقنة أصلاً. وتصبح حالة الاحتقان الديني، هي الحالة التي يتم تصريف كل أنواع الغضب العام فيها، فيتحول الغضب والرفض الموجه للنظام الحاكم، إلي غضب ورفض بين المسلم والمسيحي. وبهذا يتم نقل حالة عدم الرضا السائدة في المجال العام، إلي حالة تعصب واحتقان في المجال الاجتماعي. ونقل الغضب والعنف من المجال السياسي إلي المجال الاجتماعي ربما يفيد النظام مؤقتاً، ولكنه يضر المجتمع ضرراً بالغاً. حيث يصبح المجتمع معرضاً للانفجار من داخله، وتكثر المواجهات بين مكونات المجتمع، مما يرسب حالة من الكراهية المتبادلة بين بعض فئاته، تتحول مع الوقت إلي وقود لنزاع أهلي عميق. والدولة التي عرقلت القانون الجديد للأحوال الشخصية الذي طالبت به الكنيسة منذ عقود، رغم أن هذا حق للكنيسة بمقتضي الشريعة الإسلامية، فهي نفسها التي تسلم مواطنة مسيحية للكنيسة، رغم أن هذا ليس حقاً للكنيسة لا بمقتضي القانون الوضعي أو النظام العلماني، ولا بمقتضي الشريعة الإسلامية. والكنيسة من الجانب الآخر، تعرف أن الدولة تلبي لها بعض ما تريد وترفض البعض الآخر، وتعرف أن الدولة ترفض مثلاً تعديل قانون بناء الكنائس، ليصبح قانوناً واضحاً وله معايير ثابتة لا تسمح للدولة باستخدام ورقة بناء الكنائس كوسيلة للضغط علي الكنيسة، فتقوم الكنيسة بتحصيل طلبات أخري لها، حتي تثبت أن تفاهماتها مع الدولة لها مردود عليها وعلي الأقباط. وبهذا أصبحت الدولة والكنيسة تتصوران أنهما أقاما علاقة تفاهم قوي بينهما، مما يتيح لهما ترتيب مصالحهما. ولكن تلك العلاقة، وهي تخص مؤسسة مجتمعية مهمة وهي الكنيسة، وتخص فئة من المجتمع، وهم الأقباط، لم تضع في اعتبارها الأثر المجتمعي الناشئ من تلك الترتيبات، التي تخرج علي معايير القانون، وهي ترتيبات تجري بمنطق السياسة، بين مؤسسة السياسة المركزية وهي الدولة، ومؤسسة دينية غير سياسية وهي الكنيسة، مما يؤدي إلي بروز تحالف سياسي بين الجماعة الأقل عدداً، وهم الأقباط، وبين الدولة. وبهذا تتحول الجماعة القبطية إلي جماعة متحالفة مع نخبة الحكم المستبدة، وهي صورة يعرفها التاريخ، حيث ترتبط جماعة قليلة العدد بنظام سياسي مرفوض مجتمعياً، فتصبح تلك الجماعة كبش فداء للغضب المجتمعي المتجه نحو النظام الحاكم. فتصبح أحداث العنف الديني بديلاً عن المواجهات الشعبية مع النظام الحاكم. صحيح أن حالة الاحتقان الديني تمثل ظاهرة وجدت لأسباب مجتمعية، ولكن الدولة لم تحاول معالجتها، وهي الآن تتصرف بصورة تزيد من هذا الاحتقان، وتجعل المشاهد يشك في أنها بدأت تستخدم هذا الاحتقان. لأن العديد من الحوادث المجتمعية تدل علي أن الدولة لم تعد تحاول حصار أي اضطراب مجتمعي من أي نوع، وأنها أحياناً تكون طرفاً سلبياً في تلك الاضطرابات، وتسمح بظهور الصراعات الاجتماعية، وتهتم فقط بحصار أي احتجاج سياسي. فيصبح المجتمع هو محل تصريف كل أنواع الغضب، حتي تتمكن الدولة من الحفاظ علي أمنها الخاص، مهما كانت المخاطر التي يمر بها المجتمع. وبهذا يتم تصريف طاقات الغضب المجتمعي، بصورة لا تؤثر في بقاء النخبة الحاكمة في الحكم. ولكن الملاحظة الموضوعية تفرض علينا القول: إن ما يحدث ليس إلا تفجيراً لوضع ملتهب، لأن أي نزاع ديني يمكن أن يشعل اضطرابات واسعة في المجتمع. وكل انفجار للعنف الديني، سوف يصيب الكنيسة والأقباط، ثم سوف تتسرب طاقات الغضب إلي الدولة، ويصبح الحريق شاملاً. والسنوات الماضية أكدت أن منحي العنف الديني يتصاعد دون ضابط، والسنوات التالية سوف تؤكد أننا أمام خطر حقيقي.