منذ تشديد المراقبة على السواحل المغربية بداية هذا العام كثمرة للتعاون بين الرباطومدريد على محاربة ظاهرة الهجرة السرية، وتكثيف إسبانيا للمراقبة على سواحلها عبر إقامة نظام إلكتروني صارم، تحولت أنظار الأفارقة الراغبين في عبور المياه الزرقاء نحو أوروبا ناحية موريتانيا، لكن الوجهة هذه المرة لم تعد هي التراب الإسباني داخل أوربا نفسها ، بل أراضي جزر الكناري(أو جزر الخالدات) الواقعة في المحيط الأطلسي والتي يفصلها عن مدينة نواذيبو الموريتانية الساحلية حوالي ألف كيلومتر، يقطعها المهاجرون السريون في مراكب خشبية ليلا ، في ظروف صعبة كثيرا ما تنتهي بهم إلى الموت غرقا . هذه الموجة الجديدة من المهاجرين السريين الأفارقة جاءت عقب المأساة التي حصلت في شمال المغرب في ديسمبر الماضي عندما لقي خمسة مهاجرين من الكاميرون حتفهم لدى محاولتهم القفز على السور الشائك الذي تقيمه الحكومة الإسبانية قرب مدينة مليلية المغربية المحتلة، ما أثار في حينه استنكار العديد من المنظمات الدولية المهتمة بقضايا الهجرة، وفجر أزمة بين الحزبين القويين في مدريد، الشعبي اليميني والاشتراكي اليساري، ووجهت فيه أصابع الإدانة إلى الجنود المغاربة المرابطين قرب السور وإلى قوات الحرس المدني الإسباني الرابضة على الجانب الآخر منه، قبل أن يتم نزع فتيل الأزمة في قمة ثنائية انتهت إلى توقيع اتفاق يقضي بقبول المغرب للمهاجرين غير الشرعيين الذين ترجعهم الحكومة الإسبانية ، وتشديد الحراسة على حدوده مع البلدان المجاورة ، بما فيها المناطق الصحراوية المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو، حيث أصبحت هذه الأخيرة هي الأخرى مضطرة لتوقيف جموع المهاجرين الأفارقة في المناطق الخاضعة لها ، تحت الضغط الأوروبي الساعي إلى تقليص ظاهرة المهاجرين السريين في أفق القضاء عليها. كارثة إنسانية ومنذ بداية تحول المهاجرين الأفارقة إلى موريتانيا كجسر جديد نحو أوروبا بعد انسداد حدود المغرب من جهة الجنوب، ظلت الظاهرة محدودة داخل موريتانيا إلى أن أصدر الحرس المدني الإسباني في نهاية شهر ديسمبر الماضي تقريرا مثيرا تحت عنوان"الموت الجماعي للمهاجرين"، دق فيه ناقوس الإنذار من الظاهرة وحاول فيه تحسيس الجانبين الإسباني والموريتاني بخطورتها. وقد أوضح التقرير أنه خلال ال 45 يوما الأخيرة(صدر التقرير تحديدا يوم 27 ديسمبر2005) حاول ما بين 2000 و2500 مهاجر إفريقي غير شرعي عبور المحيط الأطلسي إلى جزر الكناري، لكن لم يصل من هؤلاء إلى البر سوى ما بين 800 إلى 900 شخص ، بينما قدر عدد الذين لقوا حتفهم غرقا بما بين 1200 و1700 آخرين. وفي تصريحات لقناة"كادينا سير" الإسبانية في 7 مارس الماضي قال مدير الهلال الأحمر الموريتاني أحمد ولد هيبه إن حوالي 40 % من عدد القوارب الخشبية التي تغادر الساحل الموريتاني محملة بمهاجرين سريين لا تصل إلى "تينيريفي"، المدينة الكانارية مقصد المهاجرين، وتفرغ حمولتها البشرية في مياه الأطلسي، مقدرا عدد الذين ماتوا غرقا بنحو 1200 إلى 1300 شخصا في الفترة ما بين نهاية نوفمبر 2005 والأسبوع الثاني من مارس 2006، أما حكومة جزر الكناري فأشارت إلى أن أعداد المهاجرين السريين الذين تم إلقاء القبض عليهم على متن الزوارق قد تضاعف بنسبة 200 بالمائة في الفترة ما بين يناير و مارس 2006. وحسب مصادر إسبانية فإن 15 ألفا من المهاجرين الأفارقة القادمين من بلدان الساحل الإفريقي ينتظرون دورهم لركوب القوارب في رحلة المغامرة ، وخاصة عبر ميناء مدينة انواذيبو في الشمال الموريتاني- رغم الاحتياطات الأمنية المشددة - حيث إن عمليات التهجير التي يشرف عليها مهربون ينتمون إلى شبكات دولية تجري في سرية تامة لتفادي السلطات الموريتانية، ويطلب من المرشح للهجرة أداء مبلغ مالي يتراوح ما بين ألف إلى ألفي يورو. وقد ساهم ضعف الرقابة على حدود موريتانيا المشتركة مع البلدان الإفريقية المجاورة ( السنغال ومالي ) والتي تمتد لآلاف الكيلومترات إلى دخول عشرات الآلاف من الأفارقة الراغبين في الهجرة إلى أوروبا الأراضي الموريتانية خلال الأشهر الأخيرة ، والتوجه إلى مدينة نواذيبو ثاني أكبر مدينة موريتانية - والتي أصبحت تزدحم بالغرباء الأفارقة - مما زاد من معدلات الجريمة فيها مؤخرا - بهدف الحصول على فرصة لهم للعبور إلى أوربا ، فيما فضلت الغالبية منهم البقاء في موريتانيا بعد انتشار الحديث عن الثروة النفطية الموعودة. وينتمي هؤلاء الأفارقة إلى دول : الكاميرون وغينيا بيساو ومالي والسينغال وغامبيا ونيجيريا وغانا وبوركينا فاسو . ومع ارتفاع وتيرة تسلل القوارب السرية وزيادة تدفق المهاجرين على جزر الكناري، شرعت السلطات الإسبانية في التنسيق مع السلطات الموريتانية من أجل إغلاق المنفذ الجديد، حيث بادرت مدريد إلى تزويد نواكشوط بأجهزة مراقبة متقدمة وزوارق بحرية لمراقبة تحركات المهاجرين الذين جعلوا من السواحل الموريتانية نقطة انطلاق لهم، وقام وزير الخارجية الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس في مارس المنقضي بزيارة نواكشوط والتباحث مع المسؤولين الموريتانيين حول سبل مكافحة الظاهرة المتنامية، وتوقيع اتفاقيات للتعاون بصدد الهجرة، بينها اتفاق على قبول موريتانيا للمهاجرين السريين الذين ترحلهم السلطات الإسبانية. وإلى جانب ذلك أنشأت مدريد في نواذيبو مركزا لاستقبال المهاجرين المرحلين يسع 352 شخصا، وأقامت مركزا طبيا متنقلا في المحيط على متن سفينة تابعة للحرس المدني أطلقت عليها تسمية"أمل البحر"، لتقديم الإسعافات الأولية للمهاجرين الذين يجري القبض عليهم في عرض المياه. هذه الكارثة الإنسانية ما فتئت تقدم المزيد من الضحايا، فخلال يومي 14 و 15 مارس الماضي لقي 45 مهاجرا إفريقيا حتفهم في مياه الأطلسي بشكل أثار العديد من ردود الفعل في إسبانيا وموريتانيا ولدى منظمات الهجرة الدولية، كون ذلك الحادث الأول من نوعه الذي يغرق فيه ذلك العدد من المهاجرين السريين دفعة واحدة ، الأمر الذي لم يمر دون أن تخصص له يومية إسبانية واسعة الانتشار هي"إيل باييس" المقربة من الحزب الاشتراكي الحاكم افتتاحية يوم 16 مارس الموالي بعنوان" السفر إلى الموت"، تحدثت فيها عن خطورة الهجرة السرية من الناحية الإنسانية وتزايد عدد الغرقى وصعوبة انتشال جثثهم ، داعية إلى تضافر جهود جميع دول الاتحاد الأوروبي وليس فقط إسبانيا للحد من الهجرة عبر مساعدة البلدان الإفريقية اقتصاديا. الهجرة ضحية السياسة بلدان الاتحاد الإفريقي قررت عقد قمة لها تخصص لملف الهجرة السرية في شهر يونيو المقبل بالجزائر، ، بينما حددت كل من إسبانيا والاتحاد الأوروبي تاريخ يوليو المقبل لعقد قمة أوروبية إفريقية حول نفس القضية بالعاصمة المغربية الرباط. ويبدو أن موضوع الهجرة تتنازعه حاليا المصالح السياسية على خلفية نزاع الصحراء الغربية والحرب الديبلوماسية الصامتة بين الجزائر والمغرب بسببه، إذ أعلنت الأولى رفضها المشاركة في قمة الرباط، ربما كرد على مقاطعة العاهل المغربي عام 2003 للقمة المغاربية التي كان مقررا عقدها بالعاصمة الجزائر، أو تعبيرا عن الصراع الهادئ بين الجانبين في إطار المنافسة المغربية الجزائرية حول زعامة المنطقة واستقطاب التأييد الدولي والأوربي بشكل خاص . هذه العقبة التي اصطدمت بها بلدان الاتحاد الأوروبي التي لا تريد أجندتين مختلفتين حول موضوع الهجرة، واحدة تضعها البلدان الإفريقية في قمة الجزائر ، والأخرى تضعها أوروبا في قمة الرباط، تحاول الديبلوماسية الإسبانية التغلب عليها من أجل تقريب المواقف بين الرباطوالجزائر وإذابة الخلاف، حيث قام كاتب الدولة الإسباني في الخارجية برناندينو ليون يوم 25 أبريل الجاري بزيارة إلى العاصمة الجزائر للتباحث مع المسؤولين فيها حول القمة المقبلة، والتي ستجمع البلدان المصدرة للمهاجرين السريين ممثلة في الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء ، وبلدان العبور ممثلة في دول المغرب العربي وخاصة المغرب وموريتانيا ، وبلدان الاستقبال ممثلة في دول الاتحاد الأوروبي. المصدر : الاسلام اليوم