كما تنشأ الدول وتقام على أسس دستورية وقانونية لتنظيم العمل بين مؤسسات سيادية وقطاعات خدمية تتصدع الدول وتنهار الأنظمة من جهة ثانية إذا تعرضت تلك الأسس والقواعد للتآكل والتصدع، وتتجلى علامات التصدع ثم التفكك والانهيار عندما يتسع الصدع ويبدأ تصاعد غبار العراك وتناثر الشظايا لتتكشف الأطلال وتتراكم نتيجة الصراع المتفجر بين مؤسسات النظام أو بالتعبير الطبي عندما يؤذن الصراع بين مكونات الخلية الواحدة في جسم الكائن الحي بأن الموت قاب قوسين أو أدنى من المريض. وقد نقل عن المرحوم الدكتور عزيز صدقي وزير الصناعة ورئيس الوزراء الأسبق مقولة رددها بعض المقربين منه قبل وفاته بوقت قصير، قال فيها " إن حالة مصر في الأعوام الأخيرة صارت مثل الفازة التي تهشمت إلى ملايين القطع الصغيرة، ولكنها مازالت تحتفظ بقدر ضئيل من التماسك الهش انتظارا لقضاء الله فتتحول إلى ركام ينتظر أهل الحكم من يلمسها أولا ليلفق قضية تحطيمها ". لذلك لم يكن غريبا أن يخرج الرئيس مبارك بعد رحلته العلاجية الأخيرة في ألمانيا لا ليحذر حكومته من الفوضى التي تستشري في مكونات نظامه الحاكم ومؤسساته السيادية والخدمية، ولكن ليحذر المعارضة من فوضى المطالبة بتعديل الدستور أو المطالبة بوقف عمليات التزوير أو المطالبة بوقف قانون الطواريء لتعذيب وقتل الأبرياء أو المطالبة بتحقيق العدالة بين أبناء الشعبين الجارين في مصر بين ساكني القصور وساكني العشش والقبور!!!. ومن يدقق في صورة الأحداث الجارية لا يرى أثر تعاظم الشروخ والتصدعات العميقة التي خلفها الاستبداد والفساد في إزكاء نار الصراع بين قطبي العدالة فحسب، بل يرى بوضوح أن قطبي الصراع ينتميان إلى المنطقة الخضراء لنفوذ الحزب الحاكم، فالمستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة يعبر عن توجه تيار الفكر الجديد الذي احتفت الدولة بانتصاره على تيار الاستقلال في انتخابات نادي القضاة السابق، والطرف الآخر يحمل لواءه نقيب المحامين حمدي خليفة العضو البارز بالحزب الوطني والمندوب الدائم لرجل الحديد السياسي أحمد عز، والذي زورت له عشرات الآلاف من الأصوات لنيل عضوية مجلس الشورى بالباطل. ويأتي الاحتقان الآخر بين مؤسسة القضاء من جهة وكنيسة البابا شنودة والإخوة الأقباط كطرف ثان على خلفية رفض البابا تنفيذ حكم القضاء الإداري والتعامل بتحد وصرامة بلغا حد الاستهانة بالسلطة من السلطات الدولة الثلاث ولو كانت ضعيفة، وأخذ هذا التصعيد غير المسبوق يدعم بتأييد ملايين الأقباط الذين أعلنوا عن استخفافهم بالقانون "الوضعي" دفاعا عما يتصورون أنه جزء من تعاليم السيد المسيح. هذان الصراعان إذا وضعا جنبا إلى جنب مع الاحتقانات التي أصابت أعصاب المجتمع من فساد بلغ الحلقوم، واستهانة بإرادة الشعب بلغت حد تزوير انتخابات الشورى بوقاحة وغرور قاتل، وإجرام بلغ حد قيام الشرطة بممارسة قتل شاب بريء بصورة بشعة والتمثيل بالقتيل على مرأى ومسمع من المارة في الشارع بغرض إخفاء معالم جريمة أخرى هي ما تردد عن قيام بعض رجال الأمن بتوزيع حصيلة الضبطية الأمنية من مخدرات وأموال على الضباط والأمناء والمخبرين في قسم سيدي جابر، ورائحة توطؤ في إجراءات التحقيق بلغت حد اصطناع تقرير تشريحي ساذج يبريء القتلة ويكيل الاتهامات المزيفة للمجني عليه، إذا وضعت تلك الأحداث معا تكتمل الصورة لوطن انهار بفعل فاعل، وما يظهر أمامنا هو الغبار الأطلال. ويري بعض الكتاب وأصحاب الرأي أن سلطة الدولة الفاشلة هي التي تدير تلك الصراعات لحسابها ولحساب الحزب الحاكم، وهو ما قد يبدو صحيحا للوهلة الأولى من رصد التلكؤ في تدخل شخصيات سياسية وجهات أمنية دأبت على التدخل في كل كبيرة وصغيرة، ولكنه – إن صدق- نوع باللعب بالنار لاتؤمن عواقبه لا على المدى القصير ولا البعيد، والتفسير وفق هذا الاتجاه يفهم منه أن اشتعال الصراعات بين القضاة والمحامين من ناحية وبين القضاء والكنيسة من ناحية أخرى يفيد النظام الحاكم في أكثر من ملف وهي: 1- إضعاف وتشويه السلطة القضائية في مخيلة المواطن قد يساعد في الغالب على ضعف المطالبة بإشراف قضائي على الانتخابات التشريعية بعد التزوير المفضوح في انتخابات الشورى. 2- إضعاف دور المحامين باعتبارهم منبرا من منابر الحرية التي تؤيد المطالب السبعة للجمعية الوطنية والدكتور محمد البرادعي لكون غالبيتهم تكفل بجمع أكثر 300 ألف توقيع على بيان التغيير. 3- انشغال المحامين بالبحث عن حصانة زائفة في مقابل حصانة القضاء الزائفة، في نظام لاكرامة فيه إلا للأتباع. 4- عزل الكنيسة ومنسوبيها عن المجتمع المصري بإعطاء مساحة أكبر لدولة الكنيسة أملا في الحصول على تأييد أكبر من كنيسة البابا شنودة لقطار التوريث المعطل. ولكن أنصار هذا التفسير فاتهم قراءة الآثار الجانبية لمثل هذا المخطط الذي لن يضرم النار في قواعد العدالة فحسب، بل سيقضي على ما بقي من مؤسسة القضاء، وسيشق المجتمع طوليا وعرضيا بصراع الحصانات المزيفة، ويقوي بذور الفتنة الطائفية، وقد يدفع الكنسية في المستقبل القريب إلى المطالبة بمحاكم خاصة للشئون الكنسية. كل هذا يعري عورة السلطة التي ماتت وظن أتباعها والمطبلون لديموتها أن المتاجرة بأمن الوطن والمواطن واستبداله بحصانات زائفة لشراء بعض الوقت لإخفاء معالم نظام قضي نحبه وتحلل، ولم يبق منه سوى عصا أمنية غليظة ستنكسر يوما ما قد بات قريبا. [email protected]