وصلتني هذه "الرسالة المقالة" من أ.د/ عبد الحميد محمد محمد عبدالحميد، وقداختصرتها لطولها وتخيرت جزءا منها لنشرها في زاويتي اليومية.. تقول الرسالة أو المقالة: منذ خمسة عشر عاما و كنت قد بنيت بيتا صغيرا لا يتعدي مساحته المائة متر مربع بقليل في احد مدن الوجه البحري حيث اعمل أستاذا بإحدى الكليات المرموقة كمأوى لي ولأسرتي وقد اخترت أحد الأمرين-من المرارة- إما أن أخالف و ابني البيت بدون ترخيص من مجلس المدينة و أتحمل المجازفة و القضاء و إما أن أسير في إجراءات الترخيص و أقوم بدفع تأمينات و رشاوى لا نهاية لها و قد اخبرني كل من سلكوا هذا الطريق إنني احتاج على الأقل لمدة عام لكي أبدا البناء و لن استرد التأمين حيث أن مهندسي مجلس المدينة سيجدون أي "تلكيكة" بان التنفيذ به مخالفة ما و من ثم يساومونك علي رشوة جديدة تعادل كل ما تدفع من تأمين ....المهم جازفت و شرعت في البناء و تم عمل محضر و تم الحكم بالبراءة بعد عامين من الصراع التافه في اللاشيء وتحملت المصاريف الباهظة (التي مثلت حوالي 25% من تكلفة المبني) نظرا لان الأرض في الكردون القديم المعتمد للمدينة المذكورة. و في اليوم المشهود توجهت في التاسعة صباحا لاستخراج صورة الحكم من المحكمة القريبة و تركت عملي على أن أعود خلال ساعة أو ساعتين لاستكمل محاضراتي وبالفعل التقطني احد الكتبة البسطاء في تلك المحكمة وقام بمساعدتي في كتابة الطلب اللازم و انهي كل شيء خلال ساعة واحدة و بكل رضا منحته مبلغا بسيطا رمزيا مقابل المجهود الذي قام به من سرعة الاطلاع علي الحكم و نسخه وتجهيزه لتوقيع سعادة الباشا رئيس النيابة و توجهت لمكتب سعادته ووجدت حتى الطرقة المؤدية إليه موصدة باثنين من الحرس الذين اخبروني أن معالي الباشا لم يصل بعد....و انتظرت ساعة و ساعة و ساعة حتى انه لم يبق سوى خمس دقائق على انتهاء الوقت الرسمي للعمل و كل ربع ساعة كنت اذهب للحراس و احصل على نفس الإجابة "معالي الباشا لم يصل بعد"...حتى أن احدهم أشفق على واخبرني أن الباشا موجود و لكن معاه ضيوف و يمكنك الانتظار ... هنا نفذ صبري و صحت:" ألا يوجد شخص ياخد كمان عشرة جنيه ويدخلنا للباشا لأوقع صورة البراءة"....و فوجئت بان مدير القلم يرمقني من مكتبه القريب قد التقط هذه الجملة و توجه إلي يخبرني أنني أقوم بسبهم و اتهامهم بالرشوة ولا بد من إبلاغ الباشا رئيس النيابة بهذه الجريمة وحاول أن يدفعني من أمام الطرقة المؤدية لمعالي الباشا إلا أنني سبقته و قلت لنفسي هذه فرصتي لأحصل على التوقيع المطلوب و لم اكترث بتهديد رئيس القلم. و في حماسة بالغة سابقني و دخل مكتب سعادة الباشا و عندما نظرت للمكتب الفخم المكيف وما به من مقاعد وثيرة وستائر وجدت مجموعة من الضيوف يبدو عليهم ملامح البلاهة التي تميز العمد وذوي الجاه المزيف من أصحاب المصالح معارف أو أقرباء الباشا....و قبل أن أتحدث مال رئيس القلم على الباشا و اخبره أنني قمت باتهامهم بالرشوة و إنني قلت بصوت عال: "مين ياخد كمان عشرة جنيه و يوقع لي صورة البراءة". هنا انتفض الباشا الذي يبدو من ملامحه أنه يصغرني بحوالي عشرة أعوام ووجه الحديث إلي بنبرة استعلاء و توبيخ قائلا:انت يا أفندي.. هل أعطيت عشرة جنيه لأحد الكتبة في قلم المحكمة؟ فأجبته نعم فقال يا أفندي إما أن تحضر من اخذ منك العشرة جنيهات وإما سأحبسك بتهمة الرشوة...وهنا قررت أن اتحدي هذا المتعجرف فقلت له لن احضره ولن أقول من هو لأنني اعتقد أن هذا الشخص هو أصلح العاملين بهذه المحكمة و هو الشخص الوحيد الذي ينجز عمله أما باقي الكتبة بما فيهم رئيس القلم المتحمس أمامك فقد راقبتهم طول اليوم ولا احد منهم ينجز شيئا فهم إما يحتسون الشاي أو يتناولون الإفطار على مدار ساعات و كلما أتي إليهم مواطن مثلي كذبوا عليه و أنكروا وجودك –كما يبدوا أنك أمرتهم بذلك-و هناك مئات من المواطنين يئسوا و انصرفوا و لم أجد طوال اليوم طلبا واحدا تم انجازه لوجه الله أو بوازع من ضمير و هاهم دأبوا على إنكار وجود معاليك ليصرفوا الناس صفر اليدين لأن سعادتك منشغل طوال اليوم في ضيافة ذويك و معارفك و ...وليذهب المواطن إلى الجحيم.... هنا شدد من نبرته و قال لرئيس قلمه احضر عسكري ووجه لي تحذير نهائي إما أن احضر الشخص و إما انه سيحبسني فقلت له اسمح لي أن أحدثك بلغة غير العربية و لتكن الإنجليزية أو الفرنسية أو الالمانية لأنني فشلت في شرح موقفي بالعربية علك تفهمني...و هنا قال آنت يا أفندي بتهزء بى فأقسمت له أني جاد ولا استهزئ و حدثته بالإنجليزية بلكنة أمريكية عن الفساد المستشري وانه هو على رأس هذا الفساد ولا شك على علم كامل به ..ولا ادري إن فهم كلامي أم لا.... و هنا تحول البلهاء ضيوفه بكل حواسهم تجاهي فأضفت قائلا له بالعربية ...معاليك رئيس نيابة يمكنك الآن أن تصدر الأمر بحبسي و سوف امضي شهرا في محبسك...و بعدها أعود إلى عملي و معي الدرس الأسود الذي تعلمته من معاليك و سوف أمارس عملي كقاضي و سأقوم بالقصاص من كل من يقع تحت يدي ...وهنا سالني ما هي وظيفتك؟ فقلت له أنا في منزلة القاضي و لعلها أعلى...أنا أستاذ في الجامعة و بعدما أقضي عقوبة الحبس سأعود لوظيفتي و لن يكون نصيب أبناء كل من هم على شاكلتك أو في وضعك عندي إلا الرسوب حتى و إن كانت إجاباتهم نموذجية لأنه ساعتها ستكون أنت قدوتي...و لن يوخذني أي ضمير.... وهنا تراجع عن نبرته و أفيق من غطرسته و أمر رئيس قلمه بالإنصرااف و طلب مني التفضل بالجلوس لأتناول القهوة و قام بالاعتذار عن معاملته إلا أنني رفضت اعتذاره وقلت ليس لي إلا طلب واحد هو توقيعك علي صورة البراءة فوقع وانصرفت دون أن أحييه أو احيي ضيوفه البلهاء. هذا وقد رسخ في ذهني أنني نجوت من تلفيق التهمة فقط نظرا لقوة حجتي و تزكية لوضعي الاجتماعي وربما بقية من ضمير لازال يتحلى بها ذاك المتغطرس ....فما بالك بملايين البسطاء من الشعب و الذين تربوا على أن ترتجف مفاصلهم بمجرد دخول سراي النيابة....وهكذا يتضح الخلفية الفاسدة من الجهوزية التلقائية للتلفيق عند هذا الباشا رئيس النيابة الذي لا شك قد حصل على و وظيفته و تم تعيينه في الغالب عن طريق الواسطة و بتزكية من أمن الدولة أو لعله كان ابن احد المستشارين أو القضاة السابقين وغير متوقع منه أن يبالي بحقوق الناس و بدون شك هو الآن قاضي أو مستشار و الكل يعلم كيف يتم تعيين وكلاء النيابة فهل نتوقع منه سلوكا غير هذا في احتقار البشر و تضييع أوقاتهم و اللعب بأعصابهم و ابتزازهم و تهديدهم بمجرد أن يعلو قليلا صوت المواطن ضجرا من اللامبالاة بحقه و عدم الاكتراث بقضاياه.....ولذلك استغرب و بمرارة ما يروج له كل يوم حيث نري و نسمع و نقرأ بمناسبة أو غير مناسبة...".نثق في نزاهة القضاء المصري"....هذا هو موقف واحد و البقية تأتي عن قريب...بعون الله."انتهى [email protected]