تشهد الساحة الإسرائيلية في يوم من الأيام ذلك الحَمَاس الذي تشهده حاليًا لإبرام تسوية مع سوريا تحديدًا، حيث دلَّت كافة الدلائل على أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتعرَّض لضغوط هائلة من قادة الأجهزة الأمنية الصهيونية للشروع في مفاوضات جادة مع دمشق بغية التوصُّل لتسوية سياسية معها. ويؤكِّد كبار المعلقين الإسرائيليين- الذين هم على دِرَاية كبيرة بما يجري داخل أروقة صنع القرار في إسرائيل- أنَّه لم يحدث أن كان قادة الأجهزة الأمنية في إسرائيل مُجْمِعون على رأيٍ في يوم من الأيام كما هم مجمعون حاليًا على ضرورة بَذْل أقصى جهد من أجل التوصُّل لتسوية سياسية للصراع مع سوريا وبأسرع وقت ممكن، وحتى يوفال ديسكين (رئيس جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك") الذي يعتبر الملف السوري خارج نطاق اهتمامات جهازه يمارس ضغطًا كبيرًا على نتنياهو للإسراع في التفاوض مع السوريين، وتجاهل المسار التفاوضي مع الجانب الفلسطيني. وحسب المسوِّغات التي يسوقها قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلي لتبرير حماسهم للتسوية مع سوريا فإنّ إنجاز هذه الخطوة يُمثِّل تغييرًا هائلاً وغير مسبوق في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، في حين أنّ إبقاء الوضع القائم على حاله لفترة أطول يحمل في طَيَّاته مخاطر ذات طابع وجودي على إسرائيل. فلا خلاف بين قادة الأجهزة الأمنية في إسرائيل على أنَّ تسوية مع سوريا تضمن تقليص المخاطر الناجِمَة عن المواجهة مع حزب الله، وتحرمه القدرة على مواصلة تهديد إسرائيل. وتتهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية سوريا بأنّها المسئولة عن توفير كل مقوِّمات الصمود العسكري لحزب الله؛ حيث إنّ سوريا لا تمثِّل فقط قاعدة لنقل السلاح لحزب الله، بل إنّ الإسرائيليين باتوا يؤكِّدون أن سوريا هي المسئولة عن تزويد حزب الله بسلاح عمل لأول مرة على تغيير التوازن الاستراتيجي بين الحزب وإسرائيل، لاسيما بعد نقل صواريخ إم 600 التي تتميز بقدرتها التفجيرية الكبيرة وبدقة إصابتها المتناهية التي تهدِّد جميع المرافق الاستراتيجية في جميع أرجاء إسرائيل، والتي من شأنها أن تشلّ قدرة إسرائيل على المناورة خلال المواجهات العسكرية مع الحزب. وهناك إجماع بين النُّخَب الأمنية على أن أي حرب مستقبلية مع حزب الله ستكون مختلفة تمامًا عن الحروب السابقة، لاسيما حرب 2006، حيث إنّ مساحة الجبهة الداخلية التي ستكون جزءًا من المواجهة ستتسع بشكل كبير جدًّا، بحيث إن التقديرات الأولية لأي مواجهة عسكرية مع حزب الله تتحدث عن سقوط آلاف القتلى في الجانب الإسرائيلي. ويرَى الجنرالات الإسرائيليون أن التسوية مع سوريا ستلحق أيضًا ضررًا سياسيًا هائلاً بحزب الله وحلفائه في لبنان، ويتوقعون أن يتفكك التحالف الذي يربط حزب الله مع مجموعة القوى اللبنانية الأخرى بمجرد التوصل لتسوية سياسية بين تل أبيب ودمشق. وفي المقابل يشيرون إلى أن سوريا باتَت حاليًا اللاعب الرئيس في لبنان، بحيث مُنِي خصومها بهزيمة نكراء تجلت مظاهرها في تهافت بعض الأطراف اللبنانية التي كانت تناصب دمشق العداء على محاولة كسب ودّ القيادة السورية بأي ثمن. وتشير النخب الأمنية الإسرائيلية إلى نقطة بالغة الأهمية تتمثل في أنّ إضعاف حزب الله سيسهم في تعزيز مكانة الدولة اللبنانية ويسمح لها ببسط سيطرتها على جميع مناطق لبنان، وهذا يكتسب أهمية كبيرة في نظر هذه النُّخب على اعتبار أن هذا التطور سيمنع تحول لبنان إلى نقطة انطلاق لعمل الحركات الجهادية السُّنّية. وترى هذه النخب أنه في حال ظَلّت الأمور على حالها في لبنان، فإنّ تحقُّق هذا السيناريو سيكون مسألة وقت لا أكثر. ويرى قادة الأجهزة الأمنية في إسرائيل أن التوصل لتسوية سياسية للصراع مع دمشق كفيل بعزل إيران في المنطقة وإضعافها وتقليص قدرتها على التأثير على الأمن الداخلي الإسرائيلي من خلال علاقتها المميزة بكلٍّ من حزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا حركتا حماس والجهاد الإسلامي. ويرى قادة تل أبيب أيضًا أنّ استمرار الوضع الراهن يُقلِّص من قدرة إسرائيل على مواجهة البرنامج النووي الإيراني؛ حيث يفترض قادة الأمن الإسرائيلي أنّ إقدام إسرائيل على ضرب المنشآت النووية الإيرانية سيتمّ الردّ عليه بشكل أساسي من قبل حزب الله وحركة حماس، ولا يستبعدون أن تنجرّ سوريا إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل في أعقاب ذلك، من هنا فإنّ التسوية مع سوريا ستُقلِّص هذا السيناريو. ويراهن جنرالات إسرائيل على أن تُسْهم التسوية مع سوريا في فكّ الارتباط بين دمشق وحركات المقاومة الفلسطينية التي تتخذ قياداتها من دمشق مقرًا لها. ويفترض الإسرائيليون أن تؤدي التسوية مع سوريا إلى انتقالها إلى "معسكر الاعتدال"، مما يحرم حركات المقاومة من مصدر هامّ للدعم السياسي. إجماع الجنرالات غير المسبوق على أهمية التسوية مع سوريا سيترُك تأثيره على اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي، وسيقلِّص من قدرة القوى اليمينية داخل الائتلاف الحاكم على معارضة استحقاقات التسوية مع دمشق، وبالإمكان التغلب على هذا العائق بضم حزب "كاديما" المعارض والذي يؤيِّد التسوية مع سوريا لضمان استقرار الائتلاف في حال تركته القوى اليمينية.