ليلة العيد .. هل بقى في قلوبنا مكان لنشدو لها أن تؤنسنا بالفرح والسعادة مثلما كنا نفعل صغارا " يا ليلة العيد ..آنستينا.. وجددتي الأمل فينا"؟ أين هو ذاك العالم الصافي الذي كنا نصنعه أو كان هو يصنع مخيلتنا ومشاعرنا ويكوّن ذاكرتنا بحكاياه الشهية الطازجة.. تلك التي تحملنا على جناح محبتها، وجداتنا وأمهاتنا وعماتنا وخالاتنا تجلسن في وسط الدار الواسعة، التي تقع في بؤرة البيت الكبير الذي يقع بدوره في مدخل القرية.. فرش كثيرة وأياد صغيرة وكبيرة..ممتدة..من وإلى "الطبالي" المستديرة التي تملأ المكان.. تقطّع تحشو، و تنقش، وترص الكعك والبسكويت.. الرائحة تملأ أرواحنا قبل أنوفنا.. نستنشق الرائحة الممزوجة برائحة الخميرة.. وننتظر لحظة خروج أول صاخ من الفرن الطيني الذي يأخذ مكانه في صدارة المكان كملك.. نعم إنه الملك في ليالي الخبيز والكعك والبسكويت.. نتلقف أول الكعكات وهى ما تزال " بنار الفرن" .. نتلصص .. لنأخذ مكاننا بجوار الصاجات المخبوزة، تمتد الأيد الصغيرة لتدخل من بين فتحات الصاجات الضيقة، تقبضن قبضة من الكعك الذي يصير فتافيت صغيرة تتساقط على الأرض، من وراء الجدات اللائي يتصنعن عدم رؤيتهن لما نفعل في حين تحيلن علينا عماتنا أو خالاتنا اللائي نطير أمامهن وهن تهششننا بعصاة الذرة أو مقشات البلح فنتطاير كفراشات الضوء! يبدأ التوحيش قبل الليلات الأخيرة.. والمسحراتي الأسمر الذي يلبس طاقيته ويمسك بطبلته الصغيرة ونقرزانه الشهير .. يجوب حنايا القرية.. كم كان حساسا هذا الرجل وعطوفا.. كنت أنتظره من العام للعام.. لا أدري.. هل كان هذا التوق لشعره الذي يخرج عذبا رقراقا يشفي غلة المشتاقين من أمثالي أم لطيبته اللا متناهية وسماحته التي تبدو على وجهه وهو يناولنا حبات "الأرواح" التي كانت بالنسبة لي أطعم من الشيكولاتة التي أعشقها الآن.. نجوب معه الحواري والأذقة وهو ينادي " اصحى يا نايم.. اصحى وحد الدايم.. وحد الرزاق.. رمضاان كريم" وخلال ترنمه بأشعاره يقول كلمات الوحشة والغياب.. .. والله لسة بدري يا شهر الصيام.. وكان وما زال رمضان كريما.. لكنني لم أعد أرَ ذلك الانبهار الذي كان يلفنا ونحن نبصُّ للسماء لنتفحص بأعيننا الصغيرة ذلك الخط الفضي الوليد .. الهلال المقوس في السماء، وكأننا نشاهد لحظة مخاض العيد.. وميلاد الفرح.. ثم نهلل معا .. أن العيد جاء العيد جاء.. ندخل بيوتنا العامرة برائحة الخبيز والفطير والكعك والبسكويت الذي تفوح منه رائحة النشادر.. نتفحص "هدوم العيد" التي ضجت من معاينتنا إياها كل دقيقة.. نضعها بجوار المخدة ولا مانع من وضع الأحذية أيضا! سلطان النوم يتدلل علينا..لا يجيء طواعية.. فتخترع لنا الأمهات وظيفة.. "اكنسوا الشارع يا حلوين، ورشوه بالماء" والحلوين.. يكنسون الشارع فيصير لامعا بعد رشه بالماء.. يباغتنا آذان الفجر والتعب والعرق الممزوج بذرات التراب يتقطر منا.. نستحم بالصابون المعطر.. ونلبس ملابسنا التي باتت على أسرتنا وفي أحضاننا.. تتفنن الأخوات الكبريات تزيينننا ووضع الشرائط الملونة في شعور البنات.. ونخرج لصلاة العيد. مازلت أتذكر الشوارع والحواري التي كنتت أسير فيها وأنا أنظر للمارين بشغف وفي أوسع مكان في القرية " الجرن" تنعقد صلاة العيد.. نجلس نحن بجانب أمهاتنا وننتظر بلهفة التمر والأرواح والملبس.. نعود لنجد صنية " الفُطرة" على ترابيزة في وسط حجرة الجلوس.. ونسلم على أفراد العائلة.. ولا ننسى أن نقبل أيديهم ونضعها على جباهنا حبا وتوقيرا قبل أن تمتد أياديهم بفتح حافظة نقودهم لتتلقف أيادينا الصغيرة العيدية التي كانت لا تتعدى العشرة قروش.. .. نفطر وقبل أن نغسل أيدينا .. تحملنا أمهاتنا على الأسرة لنغط في نوم عميق! فهل تعود هذه الطزاجة.. وهل تزورنا تلك اللحظات السعيدة؟