حين يُكتب تاريخ مشوار مصر إلى الخروج من التبعية والاستغلال والاستبداد ستكون صفحة نبيل الهلالي ناصعة، وسيبقى اسم أحمد نبيل الهلالي في أعلى صفحة المناضلين بحق، الممسكين بجمرة المبدأ بدون تنازل! والآن نكتب عنه وسيكتب كثيرون عنه، وهكذا نحن، وتلك هي عادتنا، التي لن تفارقنا، أن نكتب عن الراحلين، بعد أن يفارقونا دون أن يعلموا مقدار حبنا وتقديرنا لهم ولما يمثلون! سيقولون ابن الباشا الذي تنازل عن كل أملاكه وأراضيه الزراعية التي ورثها عن أبيه رئيس الوزراء ووزعها راضيا على الفلاحين والفقراء!!.. وسيقولون وهب حياته المهنية كمحام للدفاع عن حقوق العمال والغلابة دون مقابل، وسيقولون عرفته ساحات المحاكم مدافعا صلبا عن حق القوى المحجوبة عن الشرعية في الوجود، وسيقولون أنه دافع حتى عن خصومه الفكريين تمسكا منه بالحق في حرية الفكر والعقيدة وكل الحريات اللصيقة بالإنسان، سيقولون الشيوعي الأول، وسيقولون القديس الاشتراكي، وسيقولون الصلب الذي لم يكسر، واللين الذي لم ينهزم أو يتنازل، وقولهم صحيح، فقد كان كل ما يقولونه، ولكن أحمد نبيل الهلالي عندي كان أكبر من كل ذلك! كان الهلالي عندي ابتسامة، كانت الابتسامة هي الملخص البديع في ذاكرتي لنبيل الهلالي، ولم يحدث مرة طوال ثلاثين علما منذ عرفته وحتى اللقاء الأخير معه أن فرقت الابتسامة وجه نبيل الهلالي.. كان ابتسامة لقيتني بعد أيام طويلة من البهدلة والمرمطة في الأقسام والسجون بعد أن خطفت أنا وزملاء لي من الشارع في أعقاب انتفاضة 18 و19 يناير 1977، ومن بعد حفلة الاستقبال الشهيرة في فناء سجن أبي زعبل كان حظنا أن افترقنا عن الذين رحلوا معنا من شتى بقاع المحروسة، وأدخلت أعداد كبيرة منهم عنابر التأديب باعتبارهم متهمين في قضية الشغب، وصعدنا نحن الثلاثة إلى عنابر السياسيين، حيث التقيت هناك ضمن من التقيت زكي مراد ونبيل الهلالي، جاءا إلينا إلى الزنزانة التي أودعنا بها للتحية والتعرف، وكان أول ما شدني إليه ابتسامته التي لم تفارق وجهه منذ هذا اللقاء وحتى آخر لقاء عابر بيننا قبل رحيله! ونحن نحكي لهما عن عذابات الأيام التي مضت كان الهلالي يمسحها بابتسامة لها وقع السحر، وحين كنا ننزل إلى صلاة الجمعة في مسجد الليمان كان يصحبنا الهلالي وزكي مراد، وكانت ابتسامته هي الرد البليغ على تساؤل خبيث يبدو في نظرة العين عن السبب الذي جاء بهما إلى الصلاة وهما من هما، وكنت أقتنع برد الابتسامة ويسكت السؤال داخلي، وحين تخرجت من الجامعة وأصبحت عضوا بنقابة المحامين كان أول ما فعلته أن ذهبت إلى مكتب الدكتور عصمت سيف الدولة ومكتب الأستاذ نبيل الهلالي كأني أريد أن أتعمد بالمعنى الحقيقي لمهنة المحاماة، تلك المهنة التي جعلها نبيل الهلالي مهنة النبلاء، وكانت ابتسامته هي التي تستقبلني عند باب حجرته وهو يقول أهلا بزميلنا الجديد القديم! وظللت احرص على أن أتواجد في كل مرافعة لنبيل الهلالي في القضايا الكبرى، وكانت له طريقته الخاصة المميزة، المؤثرة، والعميقة، ولم يكن يبقى عندي من كل هذه المرافعات غير ابتسامات نبيل الهلالي، ابتسامة لمن هم في القفص، تريح عناء السجن وابتسامة في وجه القاضي أو المحقق تجعله يستجيب لطلباته، حتى وهو يترافع عن نفسه من داخل قفص الاتهام كانت ابتسامته هي الدافع وراء أن يأمر القاضي بإخراجه من موقع المتهم إلى منصة المحامي، وحين كان يهدر في مرافعته سرعان ما تعود إليه ابتسامته هادئا مطمئنا! الابتسامة هي سر نبيل الهلالي ، ابتسامته هي مفتاح شخصيته، وهي علامة قناعته بما يفعل، حين تنازل عن ميراث أبيه الباشا فعل ذلك راضيا، ولم يندم في يوم من الأيام على ما فعل، وظلت ابتسامته لا تفارقه، وحين دفع ثمن ما يعتقد لم تفارقه الابتسامة لأنه كان مخلصا في إيمانه، وحين نذر عمره للدفاع عن المظلومين وجد يقينه، واكتشف سر وجوده، فلم تفارقه ابتسامته، وأنا زعيم بأنه مات على ابتسامته لأنها كانت ظله الذي لا يفارقه!