الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد: على إثر ما جرى من أحداث عنف وقتل وقعت في الآونة الأخيرة من بعض شباب جماعة الإخوان حرَّض عليها قادتهم، اعترض آخرون من شباب الجماعة فيما يشبه عمليات احتجاج وتأنيب ضمير وإحساس بالذنب وتحمل للمسئولية، وكونوا عدة جبهات أبرزها: (جبهة أحرار إخوان) أو ما يعرف بحركة (إخوان بلا عنف)، وذلك بدافع أن قادتهم يدعونهم إلى ما يخالف تعاليم الدين ومصلحة الوطن، وقد أصدروا بهذا الصدد بياناً ناشدوا فيه قيادات الجماعة العودة إلى الرشد ومنح جيل الشباب الفرصة في التعبير عن نفسه بطريقة سلمية، محذرين من جر البلاد إلى بحور من الدم، وقودها وضحاياها شباب الجماعة.. ومن قبل حدثت خروقات من قِبل قادة كُثر كانوا يمثلون ثِقلاً في جماعة الإخوان. وحق وواجب هذه المجموعات من الشباب والقادة علينا، وحقنا وواجبنا عليهم، أن نتناصح ونتذاكر بما يَعرف كل منا ويوقن أنه الحق، وأن نقول من ناحيتنا: إن الأمر على هذا النحو لا يستقيم ولا يكفي ما لم يصحبه مراجعات في منهج الجماعة نفسها، ومعرفة ما إذا كانت أفكارها وتوجهاتها المبتناة على السمع والطاعة المطلقة على صواب أم على خطأ، ليتسنى بعد ذاك العمل لدين الله على بصيرة فينال من الله القبول ويقع من ثَمَّ محل رضاه سبحانه وتعالى. ولكي نقف على معرفة ما إذا كانت الجماعة نفسها بما رسخه الإمام البنا فيها من تعاليم وأصول على الحق أم على الباطل، فإن ثمة ظواهر وعلامات فطن إليها علماؤنا السابقون واستطاعوا من خلالها أن يتعرفوا على البدعة والمبتدعين ليسهل التمييز بينهما وبين السنة وأهلها، ومن أبرز من أشار إلى هذه العلامات: الإمام ابن القيم في أواخر كتابه (مختصر الصواعق) ص 627، قال: "إن أهل السنة يتركون أقوال الناس – يعني: من غير النبي وصحابته – لها، وأهل البدع يتركونها لأقوال الناس، ومنها: أن أهل السنة يعرضون أقوال الناس عليها، فما وافقها قبلوه وما خالفها طرحوه، وأهل البدع يعرضونها على آراء الرجال فما وافق آراءها منها قبلوه وما خالفها تركوه وتأولوه، ومنها: أن أهل السنة يَدعُون عند التنازع إلى التحاكم إليها دون آراء الرجال وعقولها، وأهل البدع يدعون إلى التحاكم إلى آراء الرجال ومعقولاتها، ومنها: أن أهل السنة إذا صحت لهم السنة يبادرون إلى العمل بها من غير نظر إلى من وافقها أو خالفها، بل يقبلونها ويعاملونها بما كان يعاملها به الصحابة حين يسمعونها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزلون أنفسهم منزلة من سمعها منه، ومنها: أنهم لا ينتسبون إلى مقالة معينة ولا إلى شخص معين غير الرسول، ومنها: أن أهل السنة إنما ينصرون الحديث الصحيح والآثار السلفية وأهل البدع ينصرون مقالاتهم ومذاهبهم، ومنها: أن أهل السنة إذا ذَكروا السنة وجردوا الدعوة إليها نفرتْ من ذلك قلوب أهل البدع، وأهل البدع إذا ذَكرتَ لهم شيوخهم ومقالاتهم استبشروا بها، ومنها: أن أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق فلهم نصيب وافر من العلم والرحمة، وأهل البدع يكذِّبون الحق ويكفِّرون الخلق فلا علم عندهم ولا رحمة، وإذا قامت عليهم حجة أهل السنة عدلوا إلى حبسهم وعقوبتهم إذا أمكنهم على غرار ما جرى لفرعون فإنه لما قامت عليه حجة موسى قال: (لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين)، ومنها: أن أهل السنة إنما يوالون ويعادون على سنة نبيهم وأهل البدعة يوالون ويعادون على أقوال ابتدعوها، ومنها: – وهذا من الأهمية بمكان – أن أهل السنة لم يؤصلوا أصولاً حكموها وحاكموا خصومهم إليها، وحكموا على من خالفها بالفسق والتكفير بل عندهم الأصول كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة".. إلى آخر ما ذكره رحمه الله مما يعد مقياساً دقيقاً نستطيع أن نُميز به صحة الأعمال وفاعليها عن رديئها وفساد معتنقيها. وإنما خُص الصحابة بالذكر لأخذ أمور الدين منهم – بعد الله ورسوله – دون سواهم، لكونهم المرضي عنهم في قوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه.. التوبة/ 100، المجادلة/ 22)، والمشهود لهم بالخيرية والسبق في قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون، الذي بعثت فيه.. ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، ولكونهم الذين أمنت عليهم الفتنة ولم يفسدوا دينهم بدنيا غيرهم، ولم تتغير الحنيفية السمحة على أيديهم.. ومن ثم كانت التوصية باتباعهم وبالتمسك بأهدابهم.. يقول عبد الله بن عباس: (عليك بالاستقامة، واتبع الأمر الأول ولا تبتدع)، وفي أثر لحذيفة: (خذوا طريق من قبلكم، فوالله لئن سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً وإن تركتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً)، وفي آخر لعليٌّ بن أبي طالب: (إياكم والاستنان بالرجال، فإن كنتم مستنين لا محالة فعليكم بالأموات)، ومن أقوال ابن مسعود في هذا: (لا تقلدوا دينكم الرجال، فإن أبيتم فبالأموات لا بالأحياء)، (من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة)، (إنكم أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهَدي – أو بالأمر – الأول)، (من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علوماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم) وفي رواية مماثلة للحسن البصري: (فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فإنهم ورب الكعبة على الهدى المستقيم).. ويقول نعيم بن حماد: (إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك.. فإنها الجماعة حينئذ)، ويقول عمر بن عبد العزيز: (سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور من بعده سُنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله، من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولي وأصلاه جهنم وساءت مصيراً)، ويقول الأوزاعي: (اصبر نفسك علي السنة وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم)، ويقول: (عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول)، ويقول ابن عمر: (أيها الناس: إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول). والحاصل أن الجماعة المحقة لا بديل لديها من السير علي منهاج النبوة ولا شيء سواه، وأن يكون فهمها لقضايا العقيدة والإسلام بشموله على ضوء الكتاب والسنة والإجماع، ومنهجها هو منهج السلف الصالح والرعيل الأول، لأن هذا المنهج هو بحق: الصحيح القادر علي إعادة الخلافة في الأرض التي تظن جماعة الإخوان أنها من بنات أفكارها.. وحسبنا منه الآن قول النبي عليه السلام: (نحن لا نعطي هذا الأمر من طلبه وحرص عليه)، وقوله لمن أطاع أميره في معصية: (لو دخلوها – أي النار التي طلب أميرهم أن يلجوها – ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف). ويجرنا ما سبق إلى الكلام عن الحديث عمن ركبوا رءوسهم وأبوا أن يأخذوا دينهم من منابعه الأصلية والأصيلة، فراحوا يتخذونه ممن نهى سلف الأمة عن الأخذ عنهم ممن لم تُؤمن عليهم الفتنه، ولم يكفهم هذا حتى طفقوا يوالون عليه ويعادون عليه، فبدا واضحاً أنهم لا يريدون إخضاع العالم كله لوحي معصوم متمثلاً في الكتاب والسنة وفهم صحيح، وإنما يريدون إخضاعه لفكر بشري يشوبه الخطأ والصواب، وما موقف البنا وخليفته التلمساني – رحمهما الله – من قضايا التوسل والتشيع والتأويل وتوحيد العبادة وطلب الإمارة والحرص عليها مهما كلف الأمر وإن أدى إلى إحداث الفتن وإراقة الدماء، إلا نماذج لذلك. وممن نبه لهذا وبيَّن خطورته شيخ الإسلام بن تيمية وكان مما قاله في درء تعارض العقل والنقل 1/ 272: "ليس لأحد أن يُنَصِّب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون علي ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون".. وقال في مجموع الفتاوى 20/ 8، 9: "لا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص إلا لرسول الله ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل، ومن نصَّب شخصاً كائناً من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً)، وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل اتِّباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يعوِّد نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به، فهذا زاجر وكمائن القلوب تظهر عند المحن".. إلى أن قال: "لا يخلو أمر الداعي من أمرين، الأول: أن يكون مجتهداً أو مقلداً، فالمجتهد ينظر في تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة ثم يرجح ما ينبغي ترجيحه.. الثاني: المقلد يقلد السلف إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها، فإذا تبين هذا فنقول كما أمرنا ربنا: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق) ونأمر بما أمرنا به ونَنهى عما نهانا عنه في نص كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فمبنى أحكام هذا الدين ثلاثة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع". ومن كلامه في المجموع أيضاً 3/ 347: "فمن جعل شخصاً من الأشخاص – غير رسول الله – من أحبه ووافقه كان – برأيه – من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك، كان من أهل البدع والضلال والتفرق".. وقال في المجموع 11/ 512: "ليس لأحد أن ينتسب إلي شيخ يوالى على متابعته ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عُرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم ولا يخص أحدا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدم من قدم الله ورسوله عليه ويفضل من فضله الله ورسوله".. وقال في موضع آخر 18/ 320: "وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم مثل من يوالى شيخاً أو إماماً وينفِّر عن نظيره وهما متقاربان أو متساويان في الرتبة، فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم، وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد الذين يوالون الشيوخ والأئمة دون البعض، وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان"أ.ه.. ومما قاله تلميذه ابن القيم في زاد المعاد 2/ 428:" التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ وتفضيل بعضها على بعض بالهوى والعصبية وكونه منتسباً إليه؛ فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه ويزن الناس به، كل هذا من دعوى الجاهلية". والكلام في هذا كثير وحسبنا منه ما ذكرنا ليتبين كمُّ الخطأ الذي يقع فيه من يوالي على الإمام البنا رحمه الله وعلى جماعته ومن يعادي عليهما، حتى أضحى ذلك داء عضالاً لا يُرجى برؤه إلا من رحمه الله ورضي عنه وأراد له الخير.. وينظر لمن أراد المزيد من توضيح هذا الأمر الجلل، كلام شيخ الإسلام في منهاج السنة 5/ 254ومجموع الفتاوى 8/ 20، 10/ 721، 20/ 163 وما بعدها. ويجرنا ما سبق ذكره إلى بيان أن (الجماعة الإسلامية) كان لها تجربة حَرِيَّة أن نفيد منها، لاسيما وأن ظروف انشقاقها عن جماعة الإخوان فيما مضى، تشابه إلى حد كبير ما تمر به هذه المجموعات الشبابية المعترضة الآن على قادتها.. ذلك أنها قد أخذت على عاتقها أن تنضبط حركتها بالشرع الحنيف، وأن تستوعب ما سبقها من تجارب لتتخذ منها العظة والعبرة، وأن تسير في عقيدتها على ما كان عليه سلف الأمة جملة وتفصيلاً لتصل من خلال كل ذلك إلى غايتها المتمثلة في تعبيد الناس لربهم ونيل رضاه من خلال الدعوة إلى دينه تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.. وبإمكان هذا التوجه الذي وضع العمل الجماعي موضع الاعتبار وفي إطاره الصحيح، أن ينجح ويحقق نتائج مبهرة في مجال العمل الدعوي ثم التمكين، لولا تجاوزات بعض قادتها فيما مضى وعلى النحو الذي يجري الآن، هذه التجاوزات نتجت عن عدم الانضباط بأدلة الشرع بصرامة، وعن جعل مقاييس المصالح والمفاسد تسير وفق الهوى وتخضع للمزاج، الأمر الذي أوقعها فيما وقعت فيه من قبل، ثم الآن من مساهمة مع الإخوان في إحداث قلاقل وانقسام للمجتمع وفتن لا يعلم أحد إلا الله ما تكون نهايتها وما ستسفر عنه، كل ذلك لأجل سلطة لم يحسن الإخوان إدارتها وخرج الشعب – مصدر السلطة وصاحب الشرعية – لنقض مشروعيتها. ونخلص مما سبق إلى بيان أنه لا يسوغ بحال لهذه المجوعات المعترضة الآن على سياسة الإخوان أن تبدأ من حيث بدأت سابقتها، وإنما العقل والمنطق يقضيان بأن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن تتحد الجهود لنخرج جميعاً من هذه الأحداث والفتن بصورة واضحة تتفق مع أدلة الوحي المبين، للنهوض مرة ثانية لكسب ثقة الناس ودعوتهم إلى الله على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة والأخذ بأيديهم إلى صحيح الدين، وقد أخذ الجميع مما سبق العظة والعبرة.. والله من وراء القصد وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل. الأستاذ بجامعة الأزهر الهيئة الشرعية لحزب البناء والتنمية