لا شك أن تجربة الجمهورية الثانية في مصر منذ انتخاب الرئيس محمد مرسي حتى عزله هي تجربة من أكثر التجارب التي مرت بمصر ثراء وأهمية، ولا شك أن التيار الإسلامي هو أول التيارات السياسية بدراسة هذه التجربة دراسة متأنية وتقليبها على جوانبها المختلفة لاستخلاص كافة الدروس المستفادة، فإنها - ومهما كانت التداعيات - ليست نهاية الدنيا، وإن بعد اليوم أيام، "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، وأظن أننا يجب أن ننتظر لبرهة نلتقط فيها الأنفاس قبل أن نبدأ هذه الدراسة العميقة للتجربة، برهة نخرج خلالها من ثنائية الإحباط والغضب، فالإحباط يؤدي للشلل، والغضب يؤدي للتسرع، وتحت ظلالهما لا يمكن إلا أن تكون دراسة خاطئة، تؤدي لنتائج ومضللة. وأظن أننا عندما نبدأ تلك الدراسة سنجد إحدى عشرة مجموعة من العوامل التي أدت لسقوط الرئيس المنتخب، وهذه المجموعات أراها فيما يلي: مجموعة متعلقة بشخص الرئيس وقدراته، ومجموعة متعلقة بقدرات الحزب والجماعة الداعمة له، ومجموعة متعلقة بالتيار السياسي المنتمي له، ومجموعة متعلقة بالفئات المعارضة للرئيس وأدائها، ومجموعة متعلقة بالدولة العميقة وأصحاب المصالح من عهد مبارك، ومجموعة متعلقة بثقافة المجتمع، ومجموعة متعلقة بالأوضاع الاقتصادية التي ورثها، ومجموعة متعلقة بالمؤسسة العسكرية، ومجموعة متعلقة بالأشقاء العرب، ومجموعة متعلقة بإسرائيل ومجموعة متعلقة بالولايات المتحدة، ولعل الله أن كتب لي عمرًا ومرت برهة التأمل أجعل لكل مجموعة من هذه العوامل مقالة أو أكثر فتكون إحدى عشرة كاملة - أو أكثر إن شاء الله - لدراسة هذه التجربة الهامة في التاريخ المصري. ولكن هناك ملمح عاجل أحب أن أتطرق إليه، وهو المشهد الأخير في عهد الرئيس المنتخب، وهو مشهد هام وكاشف، والأهم أنه سينبني عليه ما بعده، لذلك لا أرى تأخير الحديث عنه، والله المستعان، هو المشهد الذي يصور لنا الآن أنه كان وليد تداعيات الأحداث، وأنه لم يتشكل إلا في الساعات الأخيرة، ويصورون لنا الانقلابيين وكأنهم أجبروا على ما حدث إجبارًا بسبب الطوفان الشعبي وعناد الرئيس، ويصورون المشهد وكأن القيادة العسكرية كانت في حيرة من أمرها وتتنازعها النوازع الشتى بين الولاء للرئيس الجمهورية والولاء للشعب! وطبعًا من حق من يشاء أن يطرح التصورات التي تبيض وجهه وتغسل يده من عار الانقلاب على الرئيس المنتخب، وما رافقه من تعطيل الدستور، ومن المفهوم أن يحاولوا فرض تصوراتهم على التاريخ بعد أن فرضوا إرادتهم على الواقع، ولكن من حقنا نحن أيضًا - ونحن لا نملك إلا كلماتنا - أن نضع تصورنا وشهادتنا التي نتركها للتاريخ ولأولادنا من بعدنا، حتى لا تضيع الحقيقة وسط الضجيج، خاصة أنها تتعلق بعهد أول رئيس مصري منتخب، وقد أصبح الآن بين يدي سجانيه، لا يملك من أمره شيئًا، ويريدون محاكمته بتهمة الخيانة العظمى! (هنالك تبتذل الكلمات وتفقد الألفاظ والمعاني حرمتها)! إن ما حدث يقينًا لم يكن وليد الساعة ولا الأسابيع الماضية، وإنما هو أمر أنضج على مدار شهور، وبدأت إرهاصاته منذ البدايات، ولا نقول هذا الكلام بأثر رجعي، بل كان المحللون يرصدون هذا، والعبد لله له في هذا خمس مقالات، منها أربع نشرت في جريدتنا، (اليسار المصري والتعامل مع العسكر)، نشرت في 7 أغسطس 2012، ثم (الانزلاق)، نشرت في 5 مارس 2013، وافتتحتها بذلك: (لا أستطيع أن أخفي تخوفي على مصر من الانزلاق نحو تدخل الجيش في الحكم بانقلاب عسكري، وليس مبعث تخوفي من دعوة الخونة الذين خانوا مبادئهم وخانوا مستقبل مصر ممن يدعون أنهم من القوى (المدنية) للجيش جهاراً نهارًا على رءوس الأشهاد بالقيام بانقلاب عسكري للإطاحة بالرئيس المنتخب وحكومته، فهؤلاء لو اقتصر الأمر عليهم لهانت، لكن المقلق هو في الإرهاصات التي تأتي من داخل المؤسسة العسكرية)، ثم مقالة (ماذا ستفعل سيدي عشية الانقلاب العسكري)، نشرت في 12 مارس 2013، وفيها (لقد كتب عليك التاريخ يا برادعي – وعلى من حذا حذوك واتبع خطاك - أنك دعوت الجيش للتحرك ضد الحكم المنتخب، وويل لك من التاريخ لو تحقق ما دعوت إليه)، ثم مقالة (عاقبة التمرد) نشرت في 14 مارس 2013، وفيها (أعلم أن الضغوط النفسية التي تواجهها بعض القيادات العسكرية الآن ضغوط شديدة، ومصادرها متعددة، أولها وسوسة النفس، وأعلم أن نفس البعض في المؤسسة العسكرية ما زالت تموج برفض فكرة أن يكون الرئيس المنتخب من خارج المؤسسة العسكرية، وأن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة رجل مدني، كما هو موجود في كل دول العالم المتحضرة، البعض لم يهضم هذا بعد، وأعلم أن نفس البعض الآخر راغب في إغواء السلطة، ويزيد من هذا الإغواء أن شياطين الإنس من بعض التيارات (المدنية) قررت أن تمثل (طلائع) العسكر نحو السلطة، فتزين لهم الأمر ليل نهار عبر الإعلام، وأعلم أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية تمثل إغواء آخر بالتدخل بدعوى الإنقاذ، (ولقد رأينا كيف هو مفهوم الإنقاذ عند القوم!)، كل هذه إغواءات واضحة، لكن القائد العسكري لا عذر له في أن يخون أمانته مهما كانت الإغواءات، وإلا لهانت كل خيانة). إذًا لم يكن ما حدث وليد الساعات الأخيرة، وتلك السطور وغيرها بالآلاف شاهدة على ذلك.. وللحديث بقية لتحليل هذا المشهد الأخير، والربط بينه وبين عنوان المقالة وهو (العدوان الثلاثي). م/يحيى حسن عمر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.