تساءلنا في المقال الأول: أي مُضاعفات لهذا الذي يجري في الداخل الأمريكي على الشرق الأوسط وبقية أنحاء العالم؟ أسهل الأمور، المُسارعة إلى إطلاق الأحكام الصارمة على أداء الرؤساء أو أصحاب القرار أو السياسيين. فهذا مُريح لكل من المقيّم وللناس الذين يحبون التبسيط الواضح والوضوح الصريح. الرئيس أوباما يُمكن أن يكون الآن نموذجاً لهذه القاعدة. فالكل يجمع هذه الأيام على أنه حصد في سنته الأولى فشلاً ذريعاً، وهذا على كافة الأصعدة. فعلى الصعيد الاجتماعي الأمريكي، خاض معركة، يبدو الآن أنها غير مدروسة لإصلاح قطاع العناية الصحية، فوقع بين براثِن حِيتان شركات الأدوية والتأمين والأطعمة السريعة (التي "تُسمّن" الأمريكيين، تمهيداً لإسقامهم برأي البعض)، ومعها الحزب الجمهوري، الذي لا يزال يرفض أي شكل من أشكال التعاوُن مع الإدارة الديمقراطية الجديدة. وفي المجال الاقتتصادي، كانت الحصيلة أسوأ. فقد سنحت لأوباما الفرصة خلال قذفه طَوق النجاة في شكل تريليون دولار للبيوتات المالية الكبرى، كي يفرض على البنوك الإنتقال من اقتصاد الكازينو والمضاربات، إلى الاقتصاد الانتاجي، لكنه لم يفعل وأضاع فرصة ذهبية يُحاول الآن استعادَتها عبْر "إعلان الحرب" على وول ستريت، لكنه سيفشل حتماً. ف "الذِّئب" (أي المصارف) تَعافى حسبما يبدو، وهو لن يكون في وارد الرّأفة ب "الخراف" (الطبقة الوسطى). الفشل نفسه، يمكن تسجيله في السياسة الخارجية. فأوباما لا يزال "رئيس حرب"، على رغم نيله جائزة نوبل للسلام، و"مبادرته التاريخية " للعالم الإسلامي، التي أطلقها من اسطنبول والقاهرة، دخلت سريعاً متاحف التاريخ، في حين أن جهوده لتحقيق التسوية في فلسطين ومع إيران اختنقت بأنفاسها قبل أن تخنقها إسرائيل. وكذا الأمر بالنسبة إلى قضية تغيّر المناخ وخفض الأسلحة النووية ومنع انتشارها وتعزيز عمليات الانتقال إلى الديمقراطية. تغيير وجه أمريكا النطق بالحُكم المُبرم على أوباما إذن، يبدو سهلاً، لكن، وعلى رغم هذه الوقائع التي لا يُمكن إنكارها بالطبع، ثمّة نقطة كُبرى لصالح هذا الرئيس الشاب، نقطة تاريخية في الواقع. فهو يحاول ولا يزال تغيير وجه أمريكا ودوْرها في العالم بشكل جِذري: من إستراتيجية القوة والمجابهة، التي مارستها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، (والتي استندت إلى مثلَّث التفوّق العسكري والاقتصادي الكاسِح وسياسة الأحلاف والقواعد العسكرية وتغيير الأنظمة)، إلى ما أسمته هيلاري كلينتون "إستراتيجية الانخِراط البنّاء مع دول العالم". فلسفة هذه الإستراتيجية الجديدة تستنِد إلى الاعتراف بأن أمريكا باتت "قوة مُنحدِرة" في العالم، قياساً بالقوى الدولية الأخرى الصاعدة. وانطلاقاً من هذا الاعتراف الشُّجاع، تتِم الآن صِياغة سياسات تدعو إلى إعادة هندسة النظام العالمي على أسُس جديدة، تتوزّع بمُوجبها السلطة العالمية على دول مجموعة العشرين، بدل مجموعة السبعة الكِبار، وتتحوّل في إطارها الوظيفة الدولية للولايات المتحدة من دَور الطرف إلى دَور الحَكَمْ، وهذا في حدّ ذاته، انقلاب إستراتيجي هائل كفيل بأن يُدشّن النهاية الرسمية لمرحلة الحرب الباردة، والبداية الرسمية (وإن الأولية للغاية) للسلطة العالمية الجديدة: إمبراطورية العولمة. بيد أن مثل هذا الانقلاب لا يزال في بداياته الأولى، وتعترضه كما تدّل تعثرات إدارة أوباما في سنتها الأولى عقبات كأداء في الداخل الأمريكي كما في العالم. ومع ذلك، إذا ما اعتبرنا هذا التوجّه الإستراتيجي معياراً لقياس نجاح أو فشل أوباما، سنعطي هذا الأخير درجة "ممتاز"، حتى وهو يتعثّر بفشل تِلْو الآخر! بيد أن هذا لا ينفي الحقيقة بأن أوباما يتربّع على عرش قوّة عُظمى متجهة إلى الانحدار، وهذا كما قلنا، ما كشف عنه خطاب أوباما عن "حال الأمّة" الأمريكية، الأمر الذي سيُجبر الإدارة على الانغِماس كلياً تقريباً في الشأن الداخلي الأمريكي، ربما طيلة ما تبقّى من ولايتها. لكن هذا ليس كل شيء، إذ تترافق هذه الأزمة مع بدء الانحِدار النِّسبي التاريخي للولايات المتحدة، قياساً بالقوى الدولية الأخرى الصاعدة، وهذا ما تحاول إدارة أوباما الاعتراف به أولاً، ثم الانطلاق منه لصياغة سياسات تدعو إلى إعادة هندسة النظام العالمي على أسُس جديدة تتوزّع بمُوجبها السلطة العالمية على دُول مجموعة العشرين، بدل مجموعة السبعة الكبار، وتتحوّل في إطارها الوظيفة الدولية لأمريكا من دَور الطرف إلى دَور الحَكَمْ. هذا التطور التاريخي الكبير جعل أجراس الإنذار تقرع بقوة في كلّ أنحاء الشرق الأوسط، بصفتها المنطقة الرئيسية التي تركّز فيها جلّ التوجهات الإستراتيجية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة وحتى الآن. أولى العواصم التي دوّت فيها الأجراس، تل أبيب، ليس لأنها تضرّرت من سياسة نفض اليد "الأوبامية" من مشروع تسوية القضية الفلسطينية ومصالحة بليون ونصف البليون مسلم مع 4 ملايين يهودي، (فهذا ما أرادته الدولة العِبرية أصلاً)، بل لأنها تخشى أن ينحسِر دور أمريكا في الشرق الأوسط، قبل أن تُعيد هي إحكام سيْطرتها على المنطقة. الخطاب الرسمي لحكومة نتانياهو لا يعكس مُباشرة أو عَلناً هذا القلق، لكنه مبثوث في ثَنايا الحَملات العنيفة التي يشنّها اللّوبي اليهودي الأمريكي بالتنسيق مع الجمهورييين والمحافظين الجُدد الأمريكيين، والتي يتّهمون فيها إدارة أوباما بالعمل على نسْف أسُس الزعامة الأمريكية في العالم. ماذا يريد هؤلاء؟ ليس أقلّ من التّراجع عن سياسة الاعتراف بالانحدار وتقليص الدّور العالمي الأمريكي والعودة إلى تقارير الأمن الإستراتيجي، التي صدرت إبّان عهدَيْ بوش، التي ركّزت كلّها على استخدام القوة المُطلقة والعارية، لضمان استمرار الزّعامة الأمريكية في العالم، هذه هي المعركة الحقيقية الآن في أمريكا: بين طرف عقلاني ديمقراطي، يريد إنقاذ الزعامة الأمريكية عبْر الاعتراف بحدود قوّتها وبمَحدُودية القُدرة الاقتصادية الأمريكية على تمويلها، وبين طرف جمهوري - يهودي متطرِّف، يرى المَخرج من الأزمة الداخلية الأمريكية بحروب ومُجابهات خارجية. في الشهور الستة الأولى من ولاية أوباما، كانت الكفّة تَميل إلى الطرف الأول، لكنها بدأت الآن ترجح بالتّدريج لمصلحة الطّرف الثاني، وهو أمر يمكن أن تُسرّع إسرائيل الخُطى فيه، إذا ما ورّطت أمريكا، على سبيل المثال، بحرب مفاجِئة مع إيران أو بحرب في المشرق العربي، تتطوّر إلى مُجابهة إقليمية. تركيا وإيران هذا عن إسرائيل، أما الدول الإقليمية الأخرى، وهي أساساً تركيا وإيران (بسبب استمرار "الغيبوبة" العربية)، فهما تسيران في عكْس الاتِّجاه الإسرائيلي، إذ هما تشجِّعان، كلّ واحدة لدوافعها الخاصة، الانحسار الأمريكي وتنشطان لملء أي فراغ قد ينشأ: تركيا عبْر ما يُسمى ب "العُثمانية الجديدة"، التي تسعى إلى إعادة احتِضان لاإمبراطوري للمنطقة العربية على أسُس التعاون الاقتصادي والتكامل الثقافي والترويج للطبعة التركية من الإسلام الليبرالي – الديمقراطي، وإيران من خلال توطيد نفوذها الإقليمي، نووياً وفلسطينياً (القضية الفلسطينية) وترقية الدّعوة إلى الإستقلال الإسلامي عن الهيمنة الغربية - الإسرائيلية. أي حصيلة مُحتملة يُمكن أن تتأتّى عن هذه التمخّضات الدولية - الإقليمية الزلزالية في الشرق الأوسط؟ كل شيء سيعتمد على مصير إستراتيجية أوباما "الإنحِسارية" الجديدة: فإذا ما كان نصيبها الفشل، سيعود الجمهوريون بقوّة لمواصلة سياسة العُنف وفرض الزّعامة الأمريكية بالقوّة في العالم، وإذا ما نجح، ستتحوّل أمريكا إلى دولة عُظمى "عادية" ومحدودة النّفوذ، وسيشهد الشرق الأوسط حينها تغييرات انقِلابية وتاريخية لم يرَ لها مثيلاً منذ 100 عام. المصدر: سويس انفو