يبدو لى أن سؤال "جغرافيا الثورة".. بمعنى فرز المناطق التى شاركت فى ثورة يناير عن تلك التى اكتفت بالمشاهدة عن بعد.. يحتاج فعلاً إلى مراجعة وإلى تأمل علمى رصين. ليس من الرصانة أن تظل الإجابة عن هذا السؤال "معلقة" أو رهن "الكسل" المهني.. ولئن كان السؤال مغيبًا حتى الآن، عن "الوعى السياسي" المصري، بوصفه سؤالاً "نخبويًا" لا يلفت اهتمام الرأى العام، فى بيئة سياسية "استهلاكية"، تبحث عن "النجوم" وليس عن "العلماء".. عن "الشعبوية" وليس عن "النخبوية".. بمعنى أنه لا يلفت انتباه "حامل الشيكات" من المعلنين على الفضائيات.. إلا أنه يفرض نفسه بقوة الآن بعد حادث "سيناء" الأخير.. لأنه الحادث الأخطر، إذ لا ينقل صورة نمطية للمواجهات الأمنية مع أجهزة الأمن المدنية "الشرطة".. وإنما خطورته ترجع إلى أنه يكشف عمق تحدٍ غير مسبوق لأكبر وأخطر "المؤسسات الصلبة" فى الدولة وهو الجيش، الذى ظل لسنوات طويلة يتمتع بالهيبة فى مناطق التمرد القبلى: الصعيد وسيناء.. على سبيل الحصر وليس الاستثناء. قد يتساءل البعض: وهل ثمة علاقة بين حادث سيناء اختطاف سبعة جنود من الجيش والشرطة وبين المناطق التى لم تشارك فى ثورة يناير؟! العلاقة هنا موجودة ولكنها مطمورة أى غير ظاهرة ولعل الإجابة على السؤال بشأن "جغرافيا الثورة"، قد يفضى إلى تفسير ما حدث من جهة، ويساعد صانع القرار على "الحل" الجذرى من جهة أخرى. فسيناء مثل صعيد مصر لم تشارك فى ثورة يناير.. فالأخيرة لم تكن "ثورة جياع".. ولم تشارك فيها مناطق "حزام الفقر" المعروف جغرافيا بالصعيد: من جنوبالجيزة (الحوامدية والصف والبدرشين) وبنى سويف مرورًا بالمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر.. إلى أسوان.. وكذلك "سيناء" ابتداء من شرق قناة السويس إلى الحدود المتاخمة مع فلسطينالمحتلة. أضف إلى ذلك أن مناطق "الهامش" الأقاليم الأخرى فى مجملها تختصر "مصر الدولة" فى العاصمة "القاهرة".. إذ يطلق المصريون القاطنون فى تلك المناطق على العاصمة اسم "مصر"، ما جعل بعض علماء الاجتماع السياسى يختصرون هذا الظاهرة فيما سمى ب"ديكتاتورية العاصمة".. حيث تستحوذ على "حنان" الدولة أكثر من أى منطقة مصرية أخرى! يتفاقم هذا الإحساس بالتهميش بدرجة أكبر كلما بعدت المسافة عن "القاهرة مصر"، وتبلغ ذروتها فى منطقتى "سيناء والصعيد". إهمال العاصمة للأطراف البعيدة، وطنت الأخيرة على عدم انتظار "حلول" من الدولة لمشاكلها، ما أعطى للتقاليد المحلية الأولوية على "قوانين الدولة".. وبالتراكم وبمضى الزمن، استقر فى الضمير السيناوى والصعيدى نزعة كراهية ل"سلطة الدولة".. التى تأخذ منهم "الجباية الضرائب"، ولا تعطيهم فى المقابل إلا "الإهمال" و"النسيان". بعد الثورة تراجعت مرحليًا أو مؤقتًا بحكم الظروف قدرة "السلطة المركزية" على إحكام قبضتها على "الدلتا"، وبدرجة أكبر على "الأطراف" الغاضبة والمنسية.. وتنامت سلطات موازية لسلطة الدولة: فى القاهرة "سلطة تيارات" فزعة من "الأخونة"، وفى الصعيد "سلطة طائفية" مرعوبة من "التطرف الإسلامي".. وفى سيناء "سلطة قبلية" تشعر بالعزلة وربما بمرارة الشعور ب"الدونية" بسبب الاستعلاء القاهرى عليها. وإذا كان البعض يعتقد أن الحل فى "العدالة الاجتماعية".. فإنه اعتقاد قاصر وسطحى، لأن ما حدث فى سيناء ليل الأربعاء الماضى من شأنه أن يعيد التساؤل مجددًا بشأن مفهوم العدالة.. إذ أنها تتجاوز العدالة الاجتماعية.. لتشمل نوعًا آخر من العدالة.. وهى "العدالة المناطقية".. وأعتقد أن سيناء على سبيل المثال تبحث عن مثل هذه العدالة.. ولعلنا نتعلم منها الدرس. [email protected]