حلمت جماعة الإخوان المسلمين بتطبيق مشروعها "الإسلامي" لعقود طويلة، ربما كان التاريخ الدعوي المُشرف وسنوات الاعتقال والتعذيب مسوغات منطقية لانتظار ثمرة هذا الجهد متمثلة في الوصول إلى سدة الحكم، ربما كان هذا التاريخ أيضا سببًا رئيسًا في عقيدة احتكار المنهج الصحيح التي لم تسلم منها للأمانة سائر التيارات الإسلامية فمن ذا الذي ضحى أكثر من الإخوان ومن ذا الذي بذل أكثر من الإخوان؟ لقد رأى الإخوان أن أبسط حقوقهم تطبيق مشروعهم دون تحرش من تيارات إسلامية أخرى، لاسيما أنهم يعتبرون السلفيين عائقًا وعقبة في طريق مشروعهم الذي يراعي المقاصد وفق زعمهم ويقوم على التقية والبراجماتية بحسب معارضيهم. كانت الدعوة السلفية بالإسكندرية هي العقبة الإسلامية الأولى في طريق مشروع الإخوان، فإرهاصات الثورة سلطت الضوء على المدرسة التي كان لها دور في تقليص الدعم الانتخابي للإخوان بسبب الفتاوى التي حرمت المشاركة الانتخابية طالما ظلت هذه المشاركة مرهونة ببعض "التنازلات" كالإقرار بالعلمانية والليبرالية. لم تكن انتخابات 2010 هي الدليل الوحيد على أن الإخوان باتوا متهمين بمخالفة المنهج السلفي على طول الخط، فالاعتراضات السلفية على تصريحات أبو الفتوح والعريان وقتئذٍ والتي نشرها موقع صوت السلف وموقع أنا السلفي لم تتوقف. (للشيخ محمد إسماعيل المقدم كلام طويل حول موقف الدعوة السلفية من انتخابات 2010 فراجعه). وقامت الثورة وبدا الصراع أكثر وضوحًا، صحيح أن الدعوة السلفية في الشارع لم تكن بحجم التأثير الذي تمتلكه جماعة الإخوان، لكن الجماعة كانت تدرك أن العمل الجماعي لا يفله إلا عمل جماعي مثله، وأن إنكار الأخطاء الإخوانية بوصفها أفعال غير سلفية يمثل خطرًا على المشروع الذي يقوم على "مقاصد الشريعة وفقه الأولويات وواجب الوقت وفقه الاستضعاف المستنبط من الواقع المكي"، كما تقول الأدبيات الإخوانية، الانتخابات البرلمانية في بعض المناطق أظهرت صراعًا بدا فيه الفريقان كفرسي رهان. عبرت الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح عن وضوح هذا الاتجاه، فالهيئة التي بدأت بشيوخ من جميع التيارات وبمستقلين بدأت تنحرف عن مسارها بشكل مريب، في البداية، نجح المهندس خيرت الشاطر العضو بالهيئة في تكوين كتلة من سلفيي القاهرة ومن مستقلين توازي المدرسة الإسكندرانية بهدف إضفاء النكهة "السلفية" على القرارات الإخوانية، كتلة مكونة من الشيخ محمد عبد المقصود، والشيخ فوزي السعيد، والشيخ ممدوح جابر، والشيخ محمد يسري إبراهيم، والشيخ محمد حسان وآخرين، وفي النهاية، قدم عدد من المشايخ استقالات مسببة تتهم الهيئة بالانحراف عن مسارها أو بالعمل لصالح فصيل (الإخوان)، حتى الشيخ محمد حسان اعتذر بأسلوب مهذب بدعوى عدم التفرغ ليلحق كل هؤلاء بأول المستقيلين د. نصر فريد واصل. لم يكن من السهل أن يغير بعض سلفيي القاهرة مواقفهم من سلفيي الإسكندرية بشكل جذري، فقد اتسمت هذه المرحلة بتسريب معلومات إلى هؤلاء المشايخ بغرض الحصول على دعمهم عن تحالف الإسكندرانيين مع أمن الدولة في السابق ومع الفلول بعد الثورة. واستطاع الداعية صفوت حجازي المحسوب على الجماعة تكوين تحالف إعلامي مع الشيخ ممدوح جابر والشيخ محمد عبد المقصود لنزع الشرعية وسحب الثقة من سلفيي الإسكندرية. في المقابل، شهدت سلفية الإسكندرية تحولًا آخر، فالجماعة التي كانت تتهم بالجمود في مواقفها قبل المخلوع حاولت تقديم نفسها نموذجًا للمرونة السياسية وأعلنت شعار "نجلس مع الجميع" بدءًا بشفيق وانتهاء بجبهة الإنقاذ في تصرف اعتبره الإسلاميون الثوريون وشباب الإخوان خيانة وخذلانًا وشقًا للصف الإسلامي. في هذا الوقت عانى الصف "النوري" تصدعًا خطيرًا، فالدكتور عماد عبد الغفور ورجاله في الحزب لم يتحملوا الضغوط الإعلامية التي تتهم الحزب بالعمالة، ورأى هذا الفريق ضرورة فصل الدعوة عن الحزب والتخلص من الأحاديث التي تتردد عن أن الشيخ ياسر هو الحاكم بأمره، قيل إن الصراع كان صراع نفوذ بين فريق الدعوة وفريق السياسة، قيل أيضًا إن الإخوان لعبوا دورًا في شق الصف النوري لكن المتحدث الرسمي باسم النور نادر بكار كان حريصًا على نفي ذلك في حينه. اتسمت هذه المرحلة بإطلاع الرئاسة ذراعها السلفي على بعض المعلومات التي بنى عليها السلفيون إخوانيو الهوى مواقفهم تجاه حزب النور، وكشفت تصريحات الشيخ محمد عبد المقصود بشأن دور الأمن الوطني والموقف من الشيعة وأظهرت وساطاته الأخيرة أنه يلعب دورًا سياسيًا أكبر من المعقول، حتى الشيخ فوزي السعيد تورط في نقل معلومات خاطئة عن الدكتور خالد علم الدين من داخل الرئاسة قبل أن يعتذر لعدم صحة هذه المعلومات، الشيخ ممدوح جابر لعب دورًا كواليسيًا في مزيد من الاندماج بين الإخوان والسلفيين إخوانيي الهوى وسخر البعض من كونه مصدرًا لنقل المعلومات الإخوانية إلى الشيخ محمد عبد المقصود. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ولاسيما الفيس بوك، برزت أسماء كثيرة سلفية جرى استقطابها وأخرى إخوانية الهوى أو الانتماء رفعت شعار: على فكرة أنا مش إخوان بس بحترمهم. لقد أرادت الجماعة أن تجر العربة السياسية وأن يظل السلفيون تابعين وداعمين ومساندين واتضحت هذه النزعة في الحديث الإخواني وقت الانتخابات البرلمانية عن أحقية الجماعة ذات الخبرة السياسية الطويلة بصدارة القوائم في حالة التحالف مع النور. بدا جليًا أن الاختلاف مع الوسائل الإخوانية هو اختلاف مع المشروع الإسلامي وعقبة في طريقه فنهج الشيخ حازم صلاح الصدامي استدعى هجومًا ضاريًا من الشيخ محمد عبد المقصود وثناءً شديدًا من الشيخ نفسه، لأن الصدام صب في صالح الجماعة والرئاسة. (اعتصام مدينة الإنتاج الإعلامي)، في المقابل دعمت الجماعة منفردةً التقارب مع الشيعة والقروض السعودية والأوروبية والأمريكية وتخلت عن الضباط الملتحين دون أن تتقبل فكرة اتهامها بالخيانة، وطرحت بدلًا من هذا سياسة التخويف من العدو المحدق وسياسة الخضر التي تتلخص في عبارة "إنا نرى ما لا ترون". لقد بات التيار السلفي المتأخون في مأزق إثر وضوح المشهد بفضل تصريحات وزير الداخلية عن الضباط الملتحين والبدء في اعتقال الإسلاميين، وبعد أن نفدت التبريرات بأن جهات تحاول الوقيعة بين الرئيس والداخلية. وقفة أمن الدولة التي نظمها حسام أبو البخاري أعلنت عن تيار جديد مؤثر يمكننا تسميته بتيار الاستقلال الإسلامي، تيار يدعمه كتاب ومفكرون وطلاب علم إسلاميون، لقد كان الرفض الحاسم للتفاهم مع الرئاسة والداخلية أبرز ما يميز هذه النزعة التي أيدها أناس يختلفون تمامًا وبشدة وإلى درجة البغض أحيانًا مع الدعوة السلفية الإسكندرانية، فالسياسة الأمنية الأخيرة جعلتنا نرى الجبهة السلفية في المشهد المعارض للمرة الأولى لاسيما أن الملف الأمني يشكل معيارًا للتقييم لدى الجبهة التي تعرض رموزها للاعتقال والتعذيب في العهد المباركي، التيار الإسلامي الثوري بشكل عام لن يتقبل هذا التحول من مرحلة الثورة إلى الدولة ما دامت هذه الدولة لم تتخلص بعد من رموز وسياسات مبارك، إنهم يبتعدون عن الإخوان ولو لم يرتموا في أحضان السلفية الإسكندرانية وهذا رائع. الوضع في طريقه إلى الانعكاس، فالثورية ستصبح عيبًا لمجرد أن الرئيس إسلامي مطلوب دعمه وهذا سيوقع جماعة الإخوان في فخ التناقضات التي بدأت بوساطة الكتاتني والشيخ محمد عبد المقصود في قضيتي الضباط الملتحين والأمن الوطني، سيلعب اليوتيوب عاملًا هاهنا في كشف هذه التناقضات كما حدث مع مظاهرات الأزهر الأخيرة التي نظمها الحزب الحاكم في مشهد هزلي يؤكد أن النظام يتظاهر ضد نفسه على طريقة القذافي. إنها استراتيجية لتحويل أي غضب تجاه الرئيس بعيدًا وتحريره من المسؤوليات التي يفترض أنه يضطلع بها، فالمظاهرات التي تقوم بالأساس على الضغط على الحاكم باتجاه قرار ما باتت للضغط على عدو يدرك مدى جديتك، لقد فشلت تلك الاستراتيجية عندما اضطر الإسلاميون إلى الاصطدام بمؤسسة تحت سيطرة الرئيس كالداخلية، وظهرت المفارقة عندما طالبت أذرع الإخوان السلفية بعدم تحميل الرئيس مسؤولية انتهاكات الداخلية لأنها وزارة متآمرة وخارج سيطرته وطالبت في الوقت نفسه بعدم التظاهر ضد هذه الداخلية. المستشارون المستقلون بالرئاسة يستقيلون واحدًا تلو الآخر ويسري حماد القيادي بحزب الوطن يتحدث عن تعيين وزير بلا مؤهلات وينفي وجود مشروع إسلامي، وجدي غنيم يغلظ الرد بعد تصريحات وزير الداخلية، د. محمد يسري إبراهيم يهدد بالإنكار العلني بعد فشل الإنكار والنصح السري، الخطة الإخوانية السياسية تفشل، والتيار السلفي الموازي الذي عملت الجماعة على تشكيله على مدار عامين في الفراغ بين الإخوان والإسكندريين بدأ يتهاوى، بات مطلوبًا أن يتشكل تيار مستقل فاعل (لوبي) للضغط على الفريقين باتجاه تصحيح المسار ولإجبار الجماعة على التخلي عن سياسة جر العربة وتحطيم فكرة رجال المرحلة القائمة على أحقية الجماعة بالقيادة كمكافأة للاضطهاد المباركي في تجسيد لثقافة الهولوكوست الموجبة للتمكين.