قضية المياه، أو "الأمن المائي".. قضية حياة أو موت لأي شعب. وربما لم يدرك بعض عامة المصريين أهمية المياه وخطورة نقصها أو عدم توافرها بسبب وجود هذا النهر العظيم، نهر النيل.. ثاني أطول أنهار الدنيا. فقد تربينا على حقيقة أن المياه العذبة كثيرة، والحصول عليها سهل يسير.. أو كما يطلق عليه المزارعون المصريون "بالراحة". ولكن الحكومات الجادة والذكية لا تفكر بهذه الطريقة.. فالمياه مهما كثرت سوف يأتي يوم تعِز فيه؛ مع الزيادة السكانية والتوسع الزراعي والصناعي والمعماري. الحكومات الوطنية الحريصة على مصالح شعبها لا تنظر تحت أقدامها.. ولكنها تنظر دومًا إلى المستقبل القريب والبعيد؛ إلى عشرات بل مئات السنين للأمام، وتبحث بجدية سبل الحفاظ على ما هو موجود، وعلى وسائل ترشيد الاستهلاك، وتخطط لتوفير موارد إضافية للمستقبل ولأية ظروف طارئة. ولكن الواضح للأسف أن حكوماتنا الذكية (قبل الثورة وبعدها!) تائهة وغائبة عن الوعي المائي.. فضلًا عن الوعي العام. فهي لم تستفد من العلم الحديث أو تجتهد في مجال منع تلوث مياه النيل؛ ولم تحاول. كما أهملت قضية ترشيد استهلاك المياه وأصبح مألوفًا أن نجد المياه تسيل بالشوارع في كل مكان وتتلف الأسفلت دون محاولة لوقف هذا النزيف المدمر.. وفشلت في مسألة التوزيع العادل أو المخطط لمياه النيل.. فحرمت المزارعين المنتجين لغذائنا لصالح المنتجعات ونوادي الجولف وملاك المساحات الكبيرة الذين استولوا على أراضي الدولة بتراب الفلوس، وهي أراض صحراوية تصعب زراعتها وتستهلك مياهًا كثيرة؛ مما اضطر المزارعين في أراضي الدلتا- القديمة الخصبة- لري المزروعات التي نتغذى عليها من مياه الصرف الملوثة؛ الخطرة!. وهذه وحدها مصيبة كبرى تقال بسببها الحكومات؛ بالدول التي تحترم آدمية مواطنيها. كما فشلت حكوماتنا- حتى الآن- في إقامة محطة نووية لتحلية مياه البحر، على الرغم من أن الفكرة قديمة جدًا. وليت الخيبة الحكومية المائية توقفت عند هذا الحد.. ولكنها وصلت للأسف إلى إهمال وتجاهل المصادر والمنابع التي تمد نهر النيل بالمياه!. فعلى مر القرون، ومنذ أن وجدت حكومة ودولة على ضفاف النيل؛ لم يحدث أن أهملت حكومة مصرية العمق الإفريقي.. إلا في الزمن الرديء للمخلوع. وعلى الرغم من معرفتنا الكاملة بالتآمر الصهيوني القذر والواضح والصريح؛ للضغط علينا وإذلالنا بالعطش والجوع والتخلف.. لم تستيقظ حكوماتنا من سباتها وغفلتها، ولم تنتبه إلى خطورة الموقف، فتركت دول حوض النيل ميدانًا للعبث والتآمر الصهيوني، ولنفاجأ بمطالب غريبة لهذه الدول بتقليص حصة مصر من الماء على الرغم من عدم حاجة بعضها لهذه المياه.. مما يدل دلالة قاطعة على أنها تعمل لحساب- وبالاتفاق مع- العدو الصهيوني. وبهذه المناسبة؛ هل يمكننا تأديب الكيان الصهيوني على هذا التآمر أو حتى شد أذنه بتشجيع ودعم المقاومة الفلسطينية أو بوقف التطبيع رسميًا، وإعادة المقاطعة العربية؛ لكي يفيق ويكف عن هذا التآمر المكشوف الذي يهدد حياتنا ووجودنا؟.. لماذا لا نحاول؟!. إن المشكلة كانت تكمن في نظام المخلوع الذي كان مشغولًا عن مصالحنا وأمننا القومي بمصالحه الخاصة، وبالبحث عن سبل مواجهة قوى الشعب المطالبة بالتغيير، تمهيدًا للتوريث والبقاء الأبدي في السلطة.. فلم يهمل العمق الإفريقي فحسب، ولكنه أهمل أيضًا نصفنا الآخر وبوابتنا الجنوبية (السودان). لم يكفه الفشل الذريع في التعامل مع القضية الفلسطينية، خصوصًا في غزة- بوابتنا الشرقية، فانكفأ على نفسه وعلى المصالح الخاصة لأفراده، ونسي أو تناسى عمق الجنوب، عمق النيل.. في السودان الشقيق. تركنا السودان وحده يواجه المؤامرات الصهيونية والغربية للطامعين فيه وفينا.. لم نساعد السودان في حل مشكلة دارفور؛ وهي مشكلة اقتصادية لا أكثر، ولم نساعد في تنمية جنوب السودان لتجنب الانفصال وتمزيق نصفنا الجنوبي، بما يزيد التهديد للنيل؛ مصدر حياتنا. تركنا كل شيء وأصبنا بالعمى والصمم والخرس إفريقيًا؛ خوفًا من شبهة مزاحمة القوى الكبرى الاستعمارية في الكعكة الإفريقية، وصارت مصر حبيسة حدودها ولا تجرؤ على حماية أمنها القومي؟. هذا في زمن المخلوع.. فما حجة حكومات الثورة؛ بعد أن تخلصنا من المخلوع؟!. والآن وبعد أن وقعت الفأس في الرأس، وقامت بعض دول المنبع بإبرام اتفاقيات جديدة في غيبة دول المصب لإعادة توزيع المياه.. ما هو المطلوب تجاه إفريقيا لكي نصون ونحمي منابع النيل؟. إن أقل القليل من التعاون والتعامل الذكي مع هذه الدول يمكن أن ينهي تلك المشكلة، فمصر بالنسبة لهم شيء كبير ويسعدهم ويفرحهم أن تكون هناك صداقة بينهم وبين الشعب المصري العريق. لماذا لا نفتح أبواب جامعاتنا- خصوصًا الأزهر- لتعليم أبنائهم؟.. لماذا لا نستورد منهم الخامات ونصدر لهم ما نستطيع من المنتجات التي يحتاجونها؛ مع إلغاء الجمارك للتشجيع؟.. لماذا لا ننشئ "مجلس التعاون لدول حوض النيل"؟. إن المصالح الاقتصادية هي مفتاح التعاون الدولي وهي الطريق الأقصر لتحسين العلاقات.. كما أن العلاقات الثقافية هي مفتاح التفاهم والصداقة. إذا كانت حكومة الثورة لا تدرك خطورة الأمن المائي.. فعليها أن ترحل؛ قبل أن نرحل كلنا إلى العالم الآخر، هذه مسألة حياة أو موت. مياه النيل خط أحمر يا حكومة الثورة؛ وإذا كان من الصعب على هذه الحكومة أن ترَشّد الاستهلاك وتحافظ على ثروتنا المائية، وتصلح ما انكسر إفريقيًا.. فنقول لها إن حياة المصريين ليست لعبة، ويجب أن تفسح هذه الحكومة المجال لوجوه أخرى تحمي النيل وتصالح دول المنبع وتعيد المياه إلى مجاريها بتوسيع مجالات التعاون وترسيخ أسس الصداقة، ومزاحمة العدو الصهيوني وتطفيشه من إفريقيا. [email protected] عبير