أنظر إلى صفحة النيل وتداعب ذاكرتي هذه الأبيات الحلوة من قصيدة "نوارة" للمبدع أحمد فؤاد نجم، وحلمه الجميل بمستقبل ابنته على ضفاف نهر لا يتوقف عن الجريان.. ليوفي بعهده إلى مصر وأهلها. والنيل نجاشي ما فيش ما جاشي تملّي ييجي أخضر مليجي دايما يوفّي دايما يكفّي كل الخلايق
ولكن هل من الممكن أن نسمع يوماً أن "النيل ما جاشي" ويُخلف وعده مع المصريين، وتخيلت طابورا طويلا كطوابير العيش، وصراع بالجراكن مثل صراع الأنابيب، وفواتير كهرباء، وحملات توعية بترشيد الاستهلاك تقول "المصري اللي على حق يقول للحموم لأ"!
وبدأ صدري يضيق بالفكرة فأسرعت الخطى مبتعدة عن النيل، فرأيت عناوين للصحف عند بائع الجرائد القريب تنبئ بأن: "حجم الاستثمارات المصرية في إثيوبيا وصل إلى أكثر من مليار دولار قابلة للزيادة في مختلف القطاعات".. أخيراً بدأنا نفهم.
مصر إفريقية الروح "إن البعد الإفريقي لمصر تجسّد منذ القدم في رحلات قدماء المصريين إلى بلاد بنط" هذا ما أخبرتنا به رسومات المعابد الفرعونية، والمفكر جمال حمدان في كتابه (شخصية مصر)، ولا يستطيع أي مصري وخاصة سكان الجنوب أن ينكر التأثير الإفريقي في شخصيته، وثقافته، وحتى في ملامحه، وصفاته الجسمانية، فما حدث من تغير في التركيبة السكانية بعد الفتح العربي لم يجعل من جميع المصريين ساميين أو عربا، بل جعل من مصر بوتقة انصهرت فيها العديد من الأعراق السامية والإفريقية معاً، كما أنه لم يغير امتدادها في شمال إفريقيا وعلاقتها بالنيل الذي يعتبر بمثابة شريان حياة بالنسبة لنا، حتى وإن أخطأ البعض أحياناً في الطريقة التي يتعاملون بها مع نظائرهم من الإخوة الأفارقة، والتي تبدو طريقة متكبرة واستعلائية، مما يفقدنا جزءا هاما من هويتنا، ودعما كبيرا من جيراننا في القارة السمراء.
لقد انشغلت مصر لسنوات عديدة بمشكلات خارجية أخرى، وقضايا عربية، ونسيت تماماً علاقاتها مع حوض النيل وخاصة إثيوبيا، ودول إفريقية أخرى كثيرة تستحق الدعم المصري بحكم الأخوة والجوار، ولا يظن أي شخص أننا لن نستفيد من هذا، فهذه الدول الآن مستغَلة تماما من قوى خارجية، تتصارع على كنوزها الطبيعية، واستثمار كل شبر فيها، وعلى رأسها أمريكا والصين وإسرائيل.
لدرجة أصبح تواجد هذه القوى مهدِّداً لنا، في أهم مصادر الحياة (نهر النيل)، لقد تم إهمال هويتنا الإفريقية حتى في مناهجنا الدراسية وفي إعلامنا، الآن فقط وعندما تعقّدت الأزمة بدأنا نهتم بما يحدث في دول حوض النيل، إن أطفالنا لا يعرفون الكثير عن هويتنا الإفريقية أو عن الشخصيات الإفريقية المتميزة وهم كثرة، لا يعرفون سوى أن "مصر هبة النيل" وأنه حق مكتسب لنا أبد الدهر.
كلٌ يحمي مصالحه ولكن جاء فشل المفاوضات حول حق مصر في مياه النيل مرة بعد مرة كصفعة على وجهنا، فالخلاف الدائم حول النص الخاص بحصتي مصر والسودان، جعلنا ندرك ما نغفله، وبدأنا نتساءل: لماذا تشن بعض الصحف الإثيوبية حملة كراهية ضد مصر؟ ويتهمونا بأننا ننظر إليهم بتكبر واستعلاء؟ ولما تظل الأجواء معكّرة بين مصر ودول الحوض، وخلافاتنا معهم لم تحلّ لسنوات طويلة حول ضمان الحفاظ على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل؟!
بل إن إثيوبيا استطاعت أن تشيد خلال ال12 سنة الماضية حوالي 10 سدود، وبالتأكيد لن تبني إثيوبيا وحدها هذا العدد من السدود، وبهذه الضخامة؛ فوراءها أمريكا والصين وإسرائيل، فهل نأخذ العظة مما حدث في كينيا؛ حيث أدت السدود التي أقامتها إثيوبيا على نهر "أومو"، الذي يغذي كينيا بالمياه عن طريق بحيرة توركانا إلى معاناة كينيا من أخطار المجاعة، بعد أن هبط مستوى المياه في البحيرة إلى حوالي 10 أمتار فقط؛ لأنه بالرغم من تأكيد الإثيوبيين لكينيا كما يقولون لمصر من باب التمويه، على أن الهدف من السدود هو توليد الكهرباء فقط، إلا أن ما حدث عكس ذلك تماماً؛ فالطاقة الاستيعابية الضخمة للسدود قد منعت المياه من الوصول إلى كينيا.
ولا نستطيع أن نلوم أي دولة تسعى لمصلحة شعبها أو لحماية استثماراتها في الخارج؛ فنظرية المؤامرة لا مكان لها في التفكير العملي والمنطقي، نحن من أهملنا مصالحنا وضيعنا فرصنا في إقامة علاقات جيدة مع جيراننا والآن نبكي على بعض دول حوض النيل، مثل أوغندا والسودان، والتي عرضت مساحات كبيرة من أراضيها للإيجار أو للبيع للشركات العالمية والدول الأجنبية والعربية، مع العلم أن هذه الأراضي ستروى بمياه النيل، وهو ما يعتبر سرقة للمياه وتهريبا لمياه النيل إلى خارج القارة بشكل غير مباشر، وهو ما سيؤثر على كمية المياه الواصلة إلى مصر، وستتحايل إسرائيل -التي تعاني من مشكلة مياه- من خلاله أن تكون بين عشية وضحاها صاحبة حصة ثابتة في مياه النيل دون أن ندري؟
أخيرا نفهم، ويبدأ المسئولون في إدراك أهمية التعاون مع دول حوض النيل، وكالعادة يقوم المسئولون بالحكومة من غفلتهم ويطمئنونا أن كل شيء تمام، وأننا حريصون كل الحرص على علاقاتنا مع دول حوض النيل، وأن الاستثمارات ستحدث فرقاً كبيرا في العلاقات وخاصة بين مصر وإثيوبيا.
وعلى الناحية الأخرى يرى الأفارقة أن مصر تريد حصة كبيرة من المياه بحجة أنه حقها التاريخي وتصور أي مساس بهذا الحق بأنه تدخل إسرائيلي وأمريكي لحصار مصر مائيا ولا يهمّ مصر أن يموت الأفارقة عطشا وجوعا ولا تفكر إلا في مصلحتها فقط؛ فمصر تزرع محاصيل مكلفة مائيا مثل القطن وقصب السكر والأرز، وكان من الممكن أن تتعاون مصر مع دول أعالي النيل في زراعة هذه المحاصيل هناك، واستيرادها في مقابل سلع أخرى إذا كانت بالفعل تريد التعاون.
الآن تأجيل الجولة الثالثة من مفاوضات دول حوض النيل والتي كان محددا لها منتصف فبراير الحالي في شرم الشيخ إلى أجل غير مسمى، بسبب عدم وصول لجان التفاوض إلى نقاط التقاء حول نقاط الخلاف بين دول المصب (مصر والسودان)، ودول المنبع والتي تتمثل في 3 نقاط أساسية هي: الأمن المائي، والموافقة المسبقة، والحقوق التاريخية في مياه النيل لكل من مصر والسودان.
يوضح أن حجم الاستثمارات التي تم زرعها في الفترة الأخيرة في إثيوبيا لا تعني بالضرورة فعاليتها في حل الأزمة، كما أن التواجد المفاجئ للدور المصري في العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين مصر وإثيوبيا لن يكون له أثر التعاون المستمر بينها وبين إسرائيل والصين وأمريكا.
والتمسك بفكرة أن التعنت الإفريقي يأتي بتحريض من أمريكا وإسرائيل لعدد من دول المنبع -وخاصة إثيوبيا- لن تصلح الأوضاع، وحتى فكرة بناء قوة عسكرية رادعة كما في عصري الرئيسين عبد الناصر والسادات؛ حيث أنشأ كل منهما كتيبة عسكرية تم تدريبها خصيصا لضرب السدود التي تقام على نهر النيل بدون موافقتنا، والتي تستهدف الإضرار بنا وبحصتنا من المياه، فكرة غبية وستسيء إلينا وتخرب الوضع أكثر.
نحن نحتاج إلى وعي كامل بهويتنا الإفريقية، وبحقوقنا وواجباتنا نحو جيراننا الأفارقة، وبعلاقات قوية على كل المستويات معهم، وليس على المستوى الاقتصادي والدبلوماسي فقط، فكما يقول أولاد البلد: "الجار أولى بالشفعة".
لماذا لم تصل المفاوضات بين دول حوض النيل إلى نتائج مُرضية؟ بسبب محاولات إسرائيل وأمريكا لحصار مصر مائياً بسبب تراجع الدور المصري في إفريقيا بسبب عدم وجود قوة عسكرية رادعة لدى مصر لا أعرف