لاشك أن الربيع العربي الذي وصفه البعض بأنه جاء مفاجئًا، بيد أن الكثير من المراقبين والمحللين، يعدونه متوقعًا، وقد جاء متأخرًا بعض الشيء، حيث توقع الكثير حدوث حركات احتجاجية وثورية بعد حرب الخليج الأولى والثانية، وما أسفرت عنه من احتلال جزء جديد من دول العالم العربي. وقد جاء الربيع العربي حقًا، بعد فترة طويلة من الاستبداد السياسي، والتخلف العام في شتى مجالات الحياة ، لأمة تمتلك المقومات المادية والمعنوية كافة للابتعاث والإقلاع الحضاري، كما أنها تمتلك إرثًا تاريخيًا عظيمًا حيث قادت العالم ثقافيًا وعلميًا وحضاريًا لقرون عدة، إذا هو إعادة إبتعاث أمة وحضارة عاشت وسادت، واستعادة لحق ضائع ومكانة غائبة، ومغادرة لمرحلة استثنائية مرت بها هذه الأمة نتيجة تفريطها في أسباب المحافظة على مجدها التليد، ومكانتها الرائدة القائدة بين أمم الأرض. وبالتأكيد تركت سنوات الاستبداد والتخلف بصمتها وأثرها على هذه الأمة، وأكثر ما تركت وأثرت، هو ما قوضته وغيرته من مفاهيم وقيم حاكمة لسلوك هذه المجتمعات وأحلت مكانه الكثير من المفاهيم والقيم والآثار النفسية بالغة السوء والتعقيد ويأتي في مقدمتها من حيث الأثر والخطورة، تفكيك وتغييب مفهوم وقيمة الابتعاث الحضاري لخير أمة أخرجت للناس، بما تحمل من رسالة سماوية حضارية عظمى. هذا المفهوم الحضاري العبقري الذي يسمو بالإنسان الفرد الذي يعيش لنفسه وأسرته فقط ، يرتقي به إلى حمل رسالة كبرى، تحوله من الهم الخاص إلى الهم بالشأن العام ومن الراحة والدعة وربما الكسل، إلى النشاط الدائم وتقديم أفضل ما لديه، ومن التقليد والتبعية، إلى الابتكار والريادة، ومن الأهداف والطموحات الدنيوية الخاصة المحدودة، إلى التعلق بالسماء وبالمجد التليد لأمته، التي يجب أن تقود، أو على الأقل تشارك في قيادة العالم بحضارتها الروحية والأخلاقية السامقة، وبالعلوم والفنون والآداب والتكنولوجيا الحديثة. بالإضافة إلى ما نزعته من نفوس مجتمعاتنا العربية، من إحساس إمبراطوري بالعزة والكرامة والريادة، واستبدلته مؤقتًا، بالإحساس بالدونية والتبعية للغرب القوي المتقدم علميًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا وعسكريًا. بالتأكيد كل ذلك، وغيره من الكثير من المفاهيم والقيم التي تم تفكيكها وإحلالها ستترك أثرها لسنوات عدة، حتى يتم التعافي منها، واستعادة الأمة لقيمها وهويتها. وفى سياق فهمنا للسلوك البشري للأفراد والمجتمعات، إنما هو انعكاس طبيعي لما يمتلكه المجتمع من قيم ومفاهيم، نستطيع أن نفسر حالة الارتباك الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه دول الربيع العربي حاليًا، والذي يشتد ويتصاعد أحيانًا إلى صراع تتعدد أشكاله ثقافيًا وإعلاميًا، وربما صراعًا صلبًا بالأسلحة المختلفة في بعض الأحيان. بالتأكيد التحول الديمقراطي يحتاج إلى مرحلة تتعلم فيها الشعوب قيم ومفاهيم وتطبيقات الديمقراطية، حتى تتمرس عليها وتحترفها، كما أن التعايش السلمي الآمن بين الطوائف المختلفة داخل المجتمع الواحد، يحتاج إلى بنية قيمية وثقافية تدعمه وتعززه. إلى آخره من المفاهيم والقيم التي تحتاج إلى سنوات، يتوقف طولها على مدى كفاءة القيادة السياسية التي ستتولى زمام الأمور في هذه الدول، وتدرك طبيعة واستحقاقات التحول الذاتي، في قيم ومفاهيم المجتمع، حتى يتحول إلى سلوك وإنجاز وأرقام اقتصادية. وبالتأكيد أن لهذا العالم سنن وقوانين إلهية لا تتبدل ولا تتحول تنظم وتدير حركته كما أن له منظومة من القوانين الدولية الضمنية، والتي تكونت وفق خريطة القوى العالمية، وطبيعة الصراع الدولي، تدير تفاصيله ومراحل تحركه وتحوله كل ذلك فرض مجموعة من الاستحقاقات، التي توفر في ذاتها منظومة الضمانات الداعمة، وتأشيرة مرور سفينة أي دولة ناشئة عبر ممر التحول الديمقراطي صوب آفاق التنمية والنهوض والصعود الحضاري. يأتي في مقدمتها قائد ملهم يمتلك رؤية ومشروعًا حضاريًا، يستطيع تصديره إلى الجماهير وتحميلهم إياه، وحشدهم خلفه لتقديم أفضل ما لديهم لأجل تحقيق هذا المشروع. بما يعنى، اجتماع واصطفاف القوى المجتمعية كافة صوب غاية وهدف واحد مشترك، وبما يضمن حماية الدولة الناشئة من أخطار الانقسام والتفكك والصراع الداخلي، الذي يستنزف الوقت والجهد، ويهدر فرص التنمية والنهوض. وهوية وطنية جامعة، عامة وشاملة قادرة على استيعاب كل الأيدلوجيات والتوجهات الفكرية الخاصة ، التي تعيش على أرض هذا الوطن، ودمجها في هوية وطنية عبقرية جامعة، تتمكن من صف وحشد القوى المجتمعية كافة في وعاء وطني واحد وصوب اتجاه بوصلة واحد. والتي تعني نقطة تمركز، ومرجعية عليا حاكمة، من المعتقدات والقيم والأعراف والتقاليد واللغة والآمال والطلعات، تم صياغتها بعبقرية وطنية، تضمن تحقيق انصهار وتماسك قوى المجتمع في بوتقة وطنية واحدة، تحمى الدولة الناشئة من مخاطر التفكك الداخلي، أو الاختراق الخارجي. يتلوها الاستحقاق الثالث من الاستثمار الأمثل لمقدرات وموارد الدولة المادية والمعنوية، وحمايتها من الفساد والإهدار . والتي تعنى أولًا وقف الفساد المستشري، والتعدي على المال العام، والتسيب في إدارته، في قطاعات الدولة، وتحصيل ديون ومستحقات الدولة خاصة من كبار رجال الأعمال، وبذل الجهود الحثيثة لاسترداد أموال الدولة المنهوبة، والمهربة خارج البلاد، بالإضافة إلى رسم خريطة شاملة لجميع موارد وإمكانيات الدولة المادية والمعنوية، وعلى رأسها القوة البشرية، ودراسة سبل تنميتها وتوزيعها واستثمارها على قطاعات التنمية المختلفة وفق خطة استراتيجية طموحة بما يضمن تحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي قدر المستطاع بشكل متدرج، وحماية الدولة الناشئة من أخطار الاستيراد والاقتراض، والتعرض لشروط وضغوط وقيود المؤسسات الدولية والدول المانحة. يتزامن معها الالتزام بقوانين العصر الخاصة بالإنجاز والتميز في مجالات الحياة كافة، وفى مقدمتها قانون التفكير والتخطيط والإدارة الاستراتيجية، وقانون التحول إلى المؤسسية الحديثة في إدارة مؤسسات المجتمع، يليها قانون الإتقان والجودة والالتزام بالمعايير العالمية للجودة المهنية والإنتاجية، وقانون التحول إلى الإدارة بالقيم المهنية والتي أثبتت قدرتها العالية في التحفيز الذاتي للعنصر البشرى في تقديم أفضل ما لديه، بالإضافة إلى مبادرته بإنتاج الأفكار التطويرية للعمل وقانون الالتزام بالتخصص والاحتراف حيث لم يعد العالم يعترف إلا بالمحترفين كما أن التخلي عن الاحتراف أصبح مهددًا حقيقيًا لمجرد البقاء والاستمرار في دائرة المشاركة في صنع القرار، وبل والحياة من الأصل. وبالتأكيد فإن تطبيق هذه القوانين الخمسة، في قطاعات الحياة كافة، خاصة تلك المتعلقة بالمجالات التأسيسية كالهوية والتعليم والبحث العلمي، وتنمية الموارد البشرية سيكون له الآثار بالغة القوة لتحقيق نقلات نوعية سريعة في دفع عجلة التنمية وتحقيق الاستقرار النسبي. بما يعنى امتلاك قوة وأدوات الفعل الحقيقية، وزمام المبادرة، الضامنة لتحقيق أكبر قدر من الإنجازات بالموارد المحدودة المتاحة، وحماية الدولة الناشئة من تهديدات ومخاطر الضعف والتبعية. ويأتي في نهايتها الانفتاح والتواصل الاستثمار الإيجابي مع العالم المحيط وخاصة الدول المتقدمة التي تمسك بمفاتيح العلوم والتكنولوجيا والإنتاج التقني الحديث الذي يختصر المسافات والأزمنة. وهذا يعنى ضرورة القيام بتصميم استراتيجية تصالحيه مع العالم الخارجي تهدف إلى تصفير كل المشاكل مع دول العالم، وفتح علاقات جديدة على قاعدة تبادل المصالح المشتركة . بالتأكيد ما نجده من ارتباك وتعثر في مراحل التحول الديمقراطي لدول الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر، إنما مرجعه إلى عدم الالتزام النسبي بالمقومات والقوانين الخمسة سالفة الذكر، مما يتطلب مراجعات تصحيحية لإعادة التصالح مع الذات والعالم المحيط وقوانين النهوض المتعارف عليها إنسانيًا. د. إبراهيم الديب