في الأدبيات التقليدية لقصص الجاسوسية ما انتشر عن أن أحد أخطر عملاء المخابرات الأمريكية الذي اخترقوا به القيادة السوفيتية كانت كل مهمته تنحصر في أنه كلما طرحوا عدة اختيارات لمناصب مهمة في قيادة الدولة يختار الأقل كفاءة منها فيوسده الأمر، وقد كان ذلك أحد أسباب انهيار الدولة السوفيتية، وما يحدث الآن في مصر يجعلني أتشكك أن هناك جاسوسًا في مؤسسة الرئاسة المصرية، كل دوره ينحصر في أنه كلما طرحت أسماء خبرات وكفاءات للمناصب القيادية في الدولة كالوزراء يختار الأقل كفاءة في كل منصب، وأنا أناشد الرئيس مرسي أن يبحث عن هذا "الجاسوس" في مؤسسة الرئاسة الذي يورطه على الدوام ويجعله كل شهرين يضطر لتغيير وزراء يكتشف أنهم لا يصلحون، بعد شهرين فقط، وهو ما يحرجه سياسيًا ويجعله متهمًا صراحة بأنه لا يحسن اختيار قيادات الدولة، أو أنه عجول ومستهتر لا يمنح قيادات الدولة الفرصة الكافية للعمل ثم يحاسبهم بعد سنتين أو ثلاث لأنه من الظلم أن تحاسب وزيرًا بعد شهر أو شهرين إلا إذا اكتشفت أنه خائن أو فاسد أو مسجل خطر مثلا ويتوجب إحالته للمحاكمة، أما أن آتي بالوزير لمدة شهر ثم أقول إنه غير كفؤ، فالحقيقة أن مَن اختاره هو الذي ليس كفؤًا وليس الوزير، والذي يحيرك أن الإخوان أنفسهم كانوا يعطونك الدروس والمواعظ عن خطورة تغيير الوزراء في فترات قصيرة، وأن المدة محدودة قبل الانتخابات لا تتجاوز ستة أشهر لا تكفي لاختبار الوزير فالتغيير ضار جدًا بالعمل والأداء، ثم هم يغيرون الوزير بعد شهرين فقط دون أن يطرف لهم جفن أو يستشعرون أدنى الحرج أو التناقض، ويمكن أن تسمع للدكتور عصام العريان تصريحًا حزينًا وجنائزيًا عن أن الجماعة قدمت لقنديل مقترحًا بستة وزراء، فلم يأخذ منهم سوى وزيرين، شوفوا الظلم يا ناس، ثم تفاجأ بأنه اختار خمسة وزراء من الجماعة، والسادس مشكوك في أمره، لأنه لا توجد أي وثائق رسمية يمكن أن تثبت بها أن هذا الشخص أو ذاك إخواني، حتى عصام العريان نفسه، لو نفي أنه إخواني "ولكنه يحترمهم" فلا نملك قانونيًا ووثائقيًا أن نكذبه، لأننا أمام حالة زئبقية وخارج إطار الدولة والقانون، وهم يستخدمون هذه اللعبة كثيرًا في الهرب من تهمة أخونة الدولة. ومن معالم التخبط في التعديل الوزاري الجديد أن الإخوان ادعوا أنه تعديل عبقري اهتم بالمجموعة الاقتصادية لتطوير أداء الاقتصاد والاستثمار باعتبار أن ذلك هو التحدي الأهم لمصر الآن، ولم يجدوا أي مسحة حياء أن يتمسكوا بمدير مكتب وزير الري السابق رئيسًا للوزراء لكي يشرف على المجموعة الاقتصادية ويديرها ويطور أداءها ويراجعها ويحاسبها، منتهى الاستخفاف بالعقل، لم يعبأوا أساسًا بأن يسألهم سائل: ولماذا لا تأتون برئيس وزراء متخصص في الاقتصاد وصاحب خبرات علمية وكفاءات عملية رفيعة في هذا المجال، عبث أن تسألهم عن المنطق والعقل والبديهة، لأن القضية في النهاية هي أنهم يريدون تمكين كوادرهم خطوة خطوة خشية التورط بابتلاع الكعكة مرة واحدة فتكون فضيحة ويسألهم الناس عن انهيار الوطن، ثم يكملون بقية الوزارة بالمطيعين والموالين لتكون حكومة واجهة، حكومة سكرتارية للحكومة الحقيقية الخفية التي تملك القرار فعلا وتدير الملف الاقتصادي والأمني والسياسي في مصر، ويحاول الإخوان دائمًا أن يحتفظوا بخطوط رجعة في موقفهم مع هشام قنديل، فكلما هاج عليه الرأي العام وظهر الفشل يرددون دائمًا أنهم غير راضين عن أدائه وأن لهم عليه ملاحظات كثيرة دون أن يذكر لك أحدهم أي ملاحظة محددة، ثم هم بالمقابل يروجون عنه أنه أسطورة من أساطير مصر الجديدة وحقق المعجزات الاقتصادية خلال أشهر قليلة وتسمع الخزعبلات عن معجزة القمح وصناعة الطائرات بدون طيار وقريبًا سنسمع عن الظافر والقاهر وألاعيب الستينيات، ثم هم يغضبون إذا وصفت ذلك بالدجل السياسي، والميزة الوحيدة في هشام قنديل أنه يسمع ويطيع ويتلقى التعليمات فينفذها كما وردت، لأن الإخوان لديهم عقدة لا يرجى شفاؤها الآن، وهي الخوف من أن يأتي رئيس وزراء قوي وكفؤ وصاحب قرار وقادر على العمل المستقل فيحرج الرئيس محمد مرسي بتحجيمه نفوذ الجماعة وتدخلاتها، لأن الدستور الجديد جعل صلاحيات رئيس الوزراء تقترب تقريبا من صلاحيات رئيس الجمهورية، فيتمسكون بقنديل الهين اللين اللطيف المحدود الكفاءة على حساب مصالح الوطن الحقيقية، وهذا الكلام لم يعد سرًا، وقد استمعت له بنفسي من أقرب المقربين من الرئيس مرسي، وعندما قلت لهم أنكم قد تواجهون تلك الحقيقة بعد أشهر قليلة إذا أتت الانتخابات البرلمانية المقبلة بحزب أو تكتل سياسي من غير الإخوان، وبالتالي فسيكون رئيس الوزراء وقتها حربًا على الدكتور مرسي والجماعة وسيكون مستقلاً وصاحب قرار معارض وليس فقط مستقلاً، فكانت إجابتهم: لكل حادث حديث، وكأنهم يضمرون شيئًا يعرفونه مسبقًا عن الانتخابات، وبالمناسبة، هل نسي الإخوان قانون الانتخابات، ولماذا لم يعودوا متحمسين لإنجازه ولماذا يشعرون بالرضا عن المحكمة الدستورية الآن لتأخير النظر في القانون القديم، وأين القانون الجديد الذي قالوا إنهم يعدونه، وهل لاحظ أحد أن أعصاب الإخوان باردة جدًا تجاه الانتخابات البرلمانية الآن، وأنهم لم يعودوا يستعجلونها، وربما يتعمدون عرقلتها وتأجيلها، خير، اللهم اجعله خيرا.