التوحيد هو مركز الثقل في القرآن فلا تكاد صفحة أو آية في كتاب الله إلا وتشير إليه مجملًا ومفصلًا، وقضية بكل هذا الحضور المكثف لا يمكن أن تكون هامشيةً في الحياة، إذًا كيف انحرفت مفاهيم كثير من المسلمين حتى ظنوا أن التوحيد حديث في الميتافيزيقيا واللاهوت، وأنه مسألة غيبية تضمن النجاة في الآخرة وحسب دون أن يكون لها تماس مباشر مع شئون الحياة المدنية!! علينا ألا نفترض أن القرآن يفرد كل هذه المساحة التي تتحدث عن التوحيد والشرك لمشكلة تاريخية كانت موجودةً زمن تنزله وانتهت أو أنها لم تعد في عصرنا بذات الأولوية والأهمية، إن هذا الافتراض منافٍ لطبيعة منهج القرآن الذي جاء لمعالجة مشكلات البشرية في كل زمان ومكان، وكون هذه القضية مركز الاهتمام في القرآن فهذا يستدعي بالضرورة أن تكون هي المشكلة الأساسية للبشرية جمعاء في زماننا هذا كما في كل زمان، وإذا علمنا أن صورة الشرك البسيطة التي كانت شائعةً زمن تنزل القرآن المتمثلة في عبادة الحجر والشجر قد انحسرت وتراجعت كثيرًا في عالم اليوم فهذا يعني أن هناك أشكالًا جديدةً للشرك علينا أن نبحث عنها وأن نسقط معالجة القرآن عليها حتى تظل للقرآن فاعليته الاجتماعية والحضارية والنفسية ولا نصوره للعالم بأنه كتاب تراثي يعالج مشكلات تاريخيةً تجاوزها قطار المعاصرة.. إن الميدان الجديد لفهم هذه المعاني القرآنية الخالدة لا بد أن يكون هو ذات المشكلات العالمية المعاصرة الأكثر إلحاحًا، فكيف يمكن أن نسقط معاني تجريديةً مثل التوحيد والشرك على مشكلات العالم الكبرى مثل غياب العدالة والقتل وسفك الدماء واستعباد الشعوب واختلال توزيع الثروات؟؟ إن الشرك بصورته البسيطة المتمثلة في عبادة أصنام الحجر والشجر قد تراجعت حتى لم تعد هي القضية التي تحتل الصدارة في العالم، لكن هذا لا يعني أن تركيز القرآن على هذه القضية هو من قبيل تناول موضوعات تاريخية، إذ برزت أشكال أكثر تعقيدًا تخفي في طياتها حقيقة الشرك الذي عده القرآن المشكلة الأساسية للإنسانية.. لم يعد البشر يعبدون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لكن أصنامًا وتماثيل جديدةً قد انتصبت، هذه الآلهة الجديدة التي تعبد من دون الله تتمثل في أحزاب وأيديولوجيات وزعامات وقوًى مستكبرةً لا يعبدها الناس بركوع أجسادهم لكنهم يعبدوها بخضوع قلوبهم وأسر عقولهم لها. الحديث عن آلهة جديدة تعبد من دون الله ليس من قبيل المبالغة وتزيين الألفاظ، فالقرآن ذاته يحرر كلمة "إله" من قالبها الأيديولوجي فيتحدث عن الهوى بأنه إله يعبد من دون الله "أرأيت من اتخذ إله هواه"، ونحن لم نسمع بأحد يسجد ويركع لهواه، لكن عبادة الهوى تكون بخضوع القلب له. كذلك حين تلا النبي صلى الله عليه وسلم آية "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم من دون الله" قال له عدي بن حاتم وكان نصرانيًا: إنا لسنا نعبدهم، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه"؟ قال قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم".. إذًا فالتوحيد والشرك ليس قضيةً لاهوتيةً إنما هي مشكلة نفسية وسياسية واجتماعية! يطرح القرآن نموذج فرعون في دليل واضح على أن مشكلة الشرك في جوهرها مشكلة سياسية.. لم يكن تأله فرعون لاهوتيًا فلم تكن لديه مشكلة بأن تكون له آلهة يقيم لها طقوسًا تعبديةً "ويذرك وآلهتك"، كما أنه وصف بني إسرائيل بأنهم يعبدونه "وقومهما لنا عابدون" رغم أنهم لم يكونوا يعبدونه بالمعنى الطقوسي إذ كانوا على دين آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلا بد أنه قصد بعبادتهم له خضوعهم لسلطانه. كان تأله فرعون سياسيًا فلم يكن يريد أن ينازعه أحد في السلطة "وإنا فوقهم قاهرون"، وكان يخشى أن يزاحمه موسى في سلطانه "وتكون لكما الكبرياء في الأرض" ولولا هذا البعد السياسي لدعوة التوحيد لما حاربها الملوك والسادة والكبراء.. حين نبحث في كل صراعات البشر قديمها وحديثها فإن من السهل ملاحظة أن السبب الجوهري لهذه الصراعات هو الكبرياء والسعي للهيمنة والنفوذ والاعتقاد بالأفضلية على الناس، فقد رفع هتلر شعار "ألمانيا فوق الجميع" و"تفوق الجنس الآري"، وها هي أمريكا تخوض الحروب من أجل ضمان بقائها القوة العظمى، ومن أجل فرض نمطها الثقافي على الأمم والشعوب الأخرى، وها هي كل الحروب ترفع شعار "كسر إرادة العدو".. إن سعي البشر لكسر إرادة بعضهم البعض تعني في جوهرها أن كل واحد منهم يبحث عن التفرد والزعامة والكبرياء ولا يريد أن يكون هناك معقب لحكمه ولا شريك له في ملكه، وأن تكون كلمته العليا، وهل ادعاء الألوهية سوى هذا!! التوحيد في معناه الاجتماعي والسياسي هو رسالة تحرير ومساواة بين الناس "ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، واتخاذ الناس بعضهم بعضًا أربابًا لا يكون غالبًا بالسجود والركوع لبعضهم البعض إنما بإقامة علاقات بشرية مختلة تحكمها موازين القوى بدل العدل كما هو عالم اليوم فهناك زعامات تستعبد شعوبها وهناك دول مهيمنة تفرض إرادتها على الدول الضعيفة ولا تسمح لها بمنافستها وبأن تكون معها على ذات القدر من المساواة.. إن كل مشكلات الأرض اليوم المتمثلة في الحروب ونهب الثروات والإفساد في الأرض لم تكن لو أن البشر آمنوا بكلمة السواء، وأنه ليس من آلهة على الأرض إنما هو إله واحد في السماء، فآمن الحاكم بأنه ليس أكثر من إنسان مثله مثل شعبه لهم ما له من الحرية والكرامة، وعليه ما عليهم من الواجبات، وآمنت الدول المستكبرة بأن الشعوب الضعيفة هم بشر لهم حقوقهم الإنسانية ولهم آمالهم وأحلامهم، إن كل هذه المشكلات لم تكن لتكون لو أن البشر حققوا التوحيد في حياتهم.. في هذا الصدد أنصح بقراءة كتاب "تحرير الإنسان وتجريد الطغيان" لحاكم المطيري، فقد أبدع في تبيان المعنى السياسي لعقيدة التوحيد التي جاء بها الأنبياء.. [email protected]