فى الثمانينيات من القرن الماضى، كنت على موعد مع أم العروبة والإسلام, كنت على موعد باللقاء معها على أرض المحروسة مصر وسمائها وجوها ونيلها, مصر التى رسمت فى أذهاننا، ونحن صغار، تلك الأم الجميلة الطاهرة النقية الحنونة على أبنائها والبارة بأبنائها أيضًا يحملون لها كل الود والمحبة, يعيشون فى كنفها إخوة متحابين متعاونين, ولم يستغرق الوقت بالنسبة لى كثيرًا فى التفكير واتخاذ القرار فى أن أولى وجهى شطر مصر المحروسة, للالتحاق بالمعاهد الأزهرية, حيث سجلت بأحد معاهد الأزهر العتيد، وبالذات بالهرم الجيزة بمعهد الصديق الإعدادى الثانوى, من أجل متابعة الدراسة وتحصيل العلوم الشرعية من ينابيعها الصافية, فمصر الأزهر قبلة المسلمين العلمية والشرعية, ومهد الحضارة الإنسانية المتعاقبة على مر التاريخ الإسلامى الإنسانى على السواء, ومركز وقلعة الثقافة العربية والإسلامية وذلك بما تمتلكه من أساطين الفكر والثقافة فى عالمنا العربى، وفى شتى مجالات الحياة المختلفة والمتنوعة, فإليها يولى العرب والمسلمون وجهتهم للحصول على العلوم والمعارف الدينية والدنيوية, وذلك بما حباها الله ومالك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب. علاقتى بمصر المحروسة علاقة ذهنية وروحية من الصغر لا أعلم الأسباب والدوافع التى جعلتنى أرتبط بهذا البلد، الذى لم أكن قد زرته بالفعل, لكن ارتسمت فى ذهنى صورة حسناء على ذلك البلد الأمين والأمن. كنت أهفو إلى زيارته والوقوف على ما هو فى مخيلتى اتجاه أرض الكنانة، وذلك طبعًا لما كنت أسمعه وأتابعه عن مصر من خلال بعض القراءات أو ما يتسنى لى من المتابعات أو من خلال الأسرة أو العائلة أو الأقارب أو بما نتابعه من خلال السينما المصرية وإعلامها، بالرغم من صغر سنى فى ذلك الوقت. كنت من أوائل، وربما الوحيد فى الثمانينيات من القرن الماضى الذى حفظ القرآن الكريم فى الديار الهولندية على يد أخى الشيخ محمد، الذى كان محفظًا للقرآن الكريم بالمساجد المغربية, بالإضافة إلى متابعة تعليمى بالمدارس الهولندية الرسمية, وبعد إتمام حفظ القرآن الكريم وبدء المسلمين فى التوسع فى إنشاء المساجد فى هولندا, وبدء قدوم شيوخ الأزهر وبعثاتهم من مصر المحروسة إلى هولندا لإحياء رمضان الكريم مع المسلمين فى مساجدهم والقيام بالمواعظ الدينية وإقامة التراويح الرمضانية زاد ارتباطى بالأزهر والأزهريين، مما شجعنى على التفكير فى الهجرة العلمية إلى الأزهر للنهل من ينابيع علومه الصافية. حينما حللت بمصر وبعد شروعى فى الحياة اليومية مع الإخوة المصريين، لم أحس بالغربة يومًا ما, كان الشعور ينتابنى بأننى ابن هذا البلد الأمين وكأننى عشت على أرضه ردحًا من الزمن ولم أحس بقيود أو غربة, لأن تعاملات الإخوة المصريين وخفة دمهم يعطيك إحساسا بأنك ابن البلد وهذا بلدك, ويحيطونك بالرعاية والاهتمام, ولكونى مغربيًا فقد كنت أحس بالتعاطف معى وبتقديرى أيضا بخلاف العرب الآخرين للأمانة, فكلما كنت أعرف نفسى بأننى مغربى، يذكروننى بالسيد أحمد البدوى المغربى بمدينة طنطا، وبالتاريخ الجميل الذى يربط المصريين بالمغاربة والمغاربة بالمصريين، وبالصورة التى كانت مرسومة للمصريين عن المغاربة بأن المغرب كان يبعث بأولياء الله الصالحين أو بالأحرى يصدر أولياء الله الصالحين إلى مصر المحروسة بعناية الله, وقد سمعت هذا مرارا وتكرارا كلما التقيت بإخواننا المصريين فى ذلك الوقت المبكر من الزمن من الثمانينيات من القرن الماضى، تلك الحقبة الزمنية المباركة من وجودى وتواجدى على أرض النيل المحروسة، وما زالت تلك الصورة الحسناء لمصر أم الدنيا ماثلة فى ذهنى وذاكرتى إلى حد الساعة, تلك الصورة الجميلة لمصر العروبة والإسلام التى ارتسمت فى ذهنى، وعشتها فعليا وعلى أرض الواقع, لم تفارقنى إلى حد الساعة. صور التكافل والتضامن بين أبناء مصر من كل الاتجاهات والأعراق والأديان كانت حميمة وجميلة, الشهامة وتقديم العون للمحتاجين وللغرباء والوافدين موصولة, أنت فى مصر المحروسة لن تحس بالغربة أبدا لشعبها الطيب الأعراق, وللفكاهة التى يتمتع بها الشعب المصرى العريق، لن يصيبك كلل ولا ملل, الأخوة التى كانت تجمع بين المصريين فى ذلك الوقت. وبالرغم من الظروف المادية ومعوقات الحياة اليومية والظروف الاقتصادية كانت حقيقية, بالرغم من ذلك الظروف كانت البسمة ترتسم على وجوههم وفى تعاملاتهم كانوا يخافون على بعضهم البعض، يساعدون بعضهم البعض يقفون إلى جانب بعضهم البعض فى السراء والضراء, ناهيك عن أن مصر فى ذلك الوقت كانت واحة الأمان والأمن والطمأنينة والاستقرار, كنت أجوب مصر شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا فى الليل والنهار، أشعر بالأمان وبالأمن, وبأن الجميع يخاف على الآخر ويقدم له يد العون والمساعدة، وربما يضر نفسه ليجمع أخاه, إذا وقع شيء أو مس أحد بسوء، فالجميع يهرع لمساعدته ونصرته والتخفيف مما وقع له, الجميع مع الجميع والكل مع الكل, عشت هذا واقعًا ملموسًا بلا زيادة ولا نقصان, المصريون كانوا يتقاسمون همومهم وأحزانهم ومشاكلهم ويحن بعضهم على بعض, قيم ما بعدها قيم, وتحضر ما بعده تحضر، واحترام ما بعده احترام، هذا هو الجو الذى عشته فى مصر، وهذه هى حقيقة مصر والمصريين فى أصلها وفى فصلها، كما يقال, يتقاسمون معك الرغيف، وريما يفضلونك على أنفسهم، ولو كانت بهم خصاصة، على الرغم من الظروف التى كانت تمر بها مصر، وأحيانًا كانت قاسية بالنسبة لعموم الشعب المصرى, عشت هذا مع بعض الأسر المصرية الشريفة والآمنة, كنت أعتبر واحدا منهم، أسعد لسعادتهم ويسعدون لسعادتى. مصر التى حللت بها وظروفها لم تكن بالسهل الهينة فى شتى مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بالرغم من هذه الصعاب، إلا أنها على مدى الوقت والزمن استطاعت أن تخطو خطوات إلى الأمام مع بعض التعثرات هنا وهناك، وهذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا, حدث تطور فى البنية الأساسية، وفى العمران وفى المشاريع، لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد, والكمال المطلق لا يكون إلا لله. عشت هذا فى مصر يومًا بيوم، وساعة وبساعة وشهرًا بشهر وسنة بسنة، فى بداية الثمانينيات من القرن الماضى, على مدى الأعوام والسنين والتقلبات الزمنية، تحسنت ظروف مصر إلى الأحسن والأفضل, وكان من المنتظر أن تقفز مصر قفزة نوعية لتحتل مكانتها اللائقة بها بين بنى قومها وأقرانها من الأمم.. وللحديث بقية بإذن الله تعالى. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]