في غفلة من زمن العدل والشورى وحق الناس في اختيار من يحكمهم أو يمثّلهم أفتى كثير من الفقهاء بجواز "إمامة المتغلّب". بل ورفع بعضهم شعار "من اشتدت وطأته وجبت طاعته". و"المتغلّب" هو الشخص الذي يخرج على الناس بالسيف يقهرهم على طاعته وهو أقرب ما يكون في واقعنا المعاصر للانقلابات العسكرية التي يستولي فيها العسكريون على السلطة بالقوة، فيغيرون النظم السياسية ويسيّرون الناس بقوانين الطوارئ والأحكام الاستثنائية أو العرفية. وللأمانة العلميّة نقول إن أغلب من تكلم في إمامة المتغلّب من الفقهاء المسلمين أكد أنها غير شرعية وغير مستوفية لشروط البيعة الصحيحة ولكنهم اختلفوا في كيفية التعامل معها، وكان كل شاغلهم هو: الخوف من الفتنة والحرص على عدم إراقة الدماء أو تهديم وحدة المسلمين وتفريق جماعتهم. وإن كان بعض من أجاز إمامة المتغلّب من الفقهاء وضع شروطا لجوازها؛ كالذين اشترطوا لصحة إمامته استجماع شروط الإمامة. بل حاول هذا الفريق أن يُضفي نوعًا من المشروعية على وضع المتغلّب فأجازوا أن يعقد له أهل الحل والعقد بيعة لاحقة؛ لأن الإمامة عقد لا ينعقد إلا بعاقد؛ هذا طبعًا إذا وجدت فيه شروط الإمامة سلفًا واستيفاءً. لقد خاف الفقهاء الذين أجازوا إمامة المتغلّب "الفتنة" والهرج الذي لا يعرف فيه المقتول فيما قُتل ولا القاتل فيما قَتل، أي أنهم خافوا من حالة الفوضى العامة والاضطرابات الشعبية وكان حاديهم أن: ستين سنة بسلطان ظالم أو جائر خير من يوم بلا سلطان؛ وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم. ولعل هذه الخلفيات الشرعية الكامنة مبعث إجماع العلماء على أهمية الدولة في الإسلام؛ حيث ثبت نصب الحاكم وإقامة الدولة بإجماع علماء الأمة؛ فوجوب نصب الإمام فرض علي الأمة يجب عليها تنفيذه وهو رأي أهل السنة جميعًا ورأي المرجئة جميعًا ورأي المعتزلة إلا نفرًا قليلاً ورأي الخوارج ما عدا النجدات؛ وكما يقول الإمام أبو حامد الغزالي -عليه رحمة الله-: "الدين أسّ والسلطان حارس وما لا أسّ له فمهدوم وما لا حارس له فضائع". لكن من الأمانة العلمية أيضا أن نقول إنه كان هناك فريق من العلماء -وإن كان الأقل عددًا- رفض إمامة المتغلّب ورفض البيعة له ورفض الاعتراف بشرعيته؛ بل حاول بعض فقهاء هذا الفريق أن يشكّل بالناس نوعًا من السياج العازل حول المتغلّب الذي قهر الناس بسيفه فلم يجيزوا للمسلمين الاستعانة به ولا رفع قضاياهم إليه ولا التحاكم أمامه؛ بل نادى بعضهم بما يسمى في لغتنا المعاصرة بالعصيان المدني ومنعوا الصلاة خلفه وأوجبوا على من صلى خلفه إعادة الصلاة. وها نحن بعد قرون طويلة من عصور الاستبداد وقهر الناس وإلغاء إرادتهم الحرة نرى الثمار المرة التي جنتها أمتنا من إمامة المتغلّب؛ تلك الثمار الحنظل من مثل: استمرار نظم القهر وحكم السيف وأحكامه وغلبة القوة على الحق؛ وأصبح الإسلام الذي انتصر على السيف -كما يقول الراحل العظيم الشيخ محمد الغزالي- تُحكَم شعوبُه بالسيف وبالقهر وبالغلبة؛ وضاع الرشد حينما حَكَمَ الغي. نعم نلتمس الأعذار لفقهائنا الكرام الذين حكموا في وقتهم وعلى مقتضى حال زمانهم بما غلب على ظنهم أنه الخير والأنفع لدين الله ودنيا الناس، لكن الناقد البصير يعرف أن مثل تلك الفتاوى هي التي جعلت ظهور الشعوب مطايا زلول لكل مغامر ولكل قائد دبابة أو زعيم لتنظيم سري سواء أكان مسلحًا أم غير مسلح. لقد كانت فتاوى إجازة إمامة المتغلّب مثل "فتاوى النوازل" تشريعًا أو تقنينًا لحالة استثنائية فاتخذها حكام الجور قاعدة عامة ودائمة وهنا مكمن الخطر والخطورة؛ وضياع حق الأمة في اختيار من يحكمها أو يلي أمرها. وإذا كنا قد تكلمنا عن عدم شرعية إمامة التغلّب وعدم جوازها عندما كانت تتم على مستوى الدول والحكومات– وهي التي كان داعي الفتوى فيها حفظ بيضة المسلمين وجماع كلمتهم وعدم تشتت أمرهم- فإننا نجد في واقعنا المعاصر وفي غيبة أولي العقول والنهى وفي غفلة من منطق الأحرار وسيادة منطق العبيد وضياع تأثير أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض: فساد التزوير المباشر وفساد الإملاء والإذعان وفساد التوجيه لمرشح بعينه؛ أن مجتمعاتنا قد أصبحت تعيش واقعا مريرًا لنماذج محدثة من إمامة التغلّب والقهر على مستوى الأحزاب السياسية والتكوينات الاجتماعية والجماعات الحركية والتنظيمات السرية. فهناك من يقهر الناس بسيف التنظيم والسيطرة وسطوة شبكات المصالح والعلاقات والنفوذ وشبكات التنفيع وشراء الأصوات في الانتخابات المزورة شكلا ومضمونا، وليس شرطا أن تشترى الأصوات بالمال الصراح بل أحيانا ما يكون الشراء بالمناصب والمقايضة وغض الطرف وعقد الصفقات وتبادل المواقع؛ واستحكام سياسات بناء الملفات عن الأفراد والقياديين وهو شبيه بالأساليب الأمنية والمخابراتية. وتقسيم الأفراد شيعًا وأحزابًا وتقسيم القياديين شللا وأجنحة. وإذا كان كثير من علمائنا العظام قد أفتى بحرمة الصلاة في "الأرض المغصوبة" وبطلانها؛ فهل تجوز بيعة أو عهد على الطاعة في تنظيمات مغصوبة ولوائح مغصوبة وقواعد مغصوبة وجماعات مختطفة أو مغصوبة؟