إن الله خلق الإنسان وميزه وكرمه وجعل له رسالة وهي إعمار الأرض وتحسينها وجعلها آية من آيات عظمة قدرته، وبيانًا لقدر جلالته. و يكفي تكريمًا للإنسان أن الله أمر أطوع مخلوقاته له، وأجملها خلقًا، وأرقاها منزلة بالسجود لذلك المخلوق، الذي توجست منه خيفة أول ما عرفوا به، وجادلوا ربهم في سابقة عجيبة جديدة والله أعلم، ولكن الله من له علم الغيب وحده، فذكر الملائكة بذلك، ثم أراهم بالدليل العلمي، فأقروا خاضعين "لا علم لنا إلا ما علمتنا". ثم إن الإنسان لم يجعله الله نوعًا مفردًا في كوكب الأرض مع راية الإعمار، والأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض، فقد خلق حوله الكائنات اللاتي لا يحصي أنواعهن محصٍ، فكأنهم ممثلون والإنسان هو بطل المسرحية المفرد. و لكن أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فإذا به يحيد دومًا عن السيادة التي خطها له ربه "و لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا"، فإذا به يحط من نفسه لدرجة أحط من الحيوانات التي خلقها الله كوسيلة من وسائل الإنسان لعمارة الأرض، وبسط سيطرته عليها، أو كرمانة ميزان لضبط موازين الطبيعة من حول الإنسان ليتهيأ له جو الإعمار للأرض. تعددت الصور لذلك فإذا به يعظم الحيوانات، وإذا به يخلق منها شركاء لمن خلقه و خلقهم، و لكن نرى الغالب - حتى فيمن اصطفاه الله بالتوحيد – يضع نفسه في درجة أدنى من الحيوان، إذ يوجه كل طاقة ميزه الله بها ليعيش أحلامًا لا تختلف عن أحلام الحيوانات كثيرًا...... هذا هو إنسان هذا القرن. ولا أقصد أن أحرم أو أحط من أحلام الناس بالمال والجاه وغيره بل الغرض في تبيين "رؤية الإنسان لدوره في الحياة"، فالإنسان في القرن الحادي والعشرين يذكرنا حالة بقوله تعالى، واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" "الإخلاد إلى الأرض" فعلها الإنسان فشبهه الله – الذي ميزه وكرمه- بالكلب اللاهث دومًا، فالإنسان أصاب فهمه لدوره في الأرض كقائد لمسيرتها التبلد، ولم يعد يشعر بمعنى لما يفعله فهو يقضي الحياة ككلفة مفروضة عليه ربما اغتنم منها أوقات للضحك والتسلية، وارتضى طموحًا بهيميًا كمن دونه من الخلق. لكل مهنة دور في المجتمع، فصاحب المهنة بجانب أن مهنته تمثل له مصدر دخله و قوام عيشه فهي رسالته في الحياة ودوره في عمارة الأرض، لا يحسب السباك أن دوره مجرد تربيط أعمى للمواسير وغيره من أعمال السباكة و خلافه ثم يقبض من صاحب المكان المال، وانتهى الأمر عند ذلك، ولا يحسب سائق الميكروباص أن كل وجوده في الحياة هو تعبئة الركاب في عربته ومحاولة تعبئة أكبر عدد وأخذ أكبر عدد من دورات النقل كي يجمع ماله فهو ليس مجرد شخص عديم القيمة يضغط دواسة البنزين – ربما هو يتخيل نفسه ذلك – بل له رسالة هي أغلى عنده من كل مال و هي نقل الناس والمال رزق مقدر سيصله في كل الأحوال بل ما يسعى إليه هو رسالته درى أو لم يدرِ فلو كان تحصيل المادة هو رسالة الحياة على الأرض فقط لتساوى الإنسان بغيره . إذا سواء فهم صاحب كل مهنة دوره في عمارة الأرض أم لا فالأرض ستعمر بيد الإنسان مهما كان فذلك أمر الله ومشيئته التي سبقت، ولكن المرجو من كل إنسان أن يقف أمام نفسه، ويسأل ويشرح لنفسه "ماذا أنا وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الخلق؟".