موضوع طالما راودتنى الرغبة للكتابة فيه، ولكن كان يحول دون ذلك شعور بأن الظروف لم تسنح بعد بالتّفرّغ المناسب، لإنجاز هذا العمل، رغم أهميته كواجب من واجبات المفكر تجاه الأجيال الجديدة: أن ينقل إليهم خلاصة تجاربه مع الفكر والناس والحياة.. حفزنى على البدء فى هذا العمل ما جدَّ من تطورات سريعة شهدتها مصر بعد الثورة، كشفت عن معادن الرجال: بعضهم كان يبدو لى على شيء من القيمة والقدْر فإذا به يترنَّح كالخُشُب المسندة.. ومع تدفّق المال الحرام فى ساحتى السياسة والإعلام رأيت أناسًا يتساقطون متهافتين؛ يبيعون أنفسهم وضمائرهم وأقلامهم لمن يدفع أكثر.. وتبين لى أن مقولة المفكر الإسلامى "مالك بن نبي" كانت صحيحة عندما وصف هذا النوع من الناس بأن ضمائرهم قد تشكّلت على هيئة "أكياس نقود".. ولكن تبقى دائما – تحت أسوأ الظروف - قلَّة قليلة صامدة تضرب المثل الأعلى فى قوة الأخلاق والإيمان والثبات والصبر على المكاره.. من هؤلاء رجل لا يكاد يذكره الناس فهو قليل الكلام.. حجبتْه عن الأنظار فى السنوات الأخيرة معاناته لأمراض تقلّبت عليه فألزمته القعود فى البيت.. كلما هاتفتُه لأطمئنّ عليه وأعرف أخبار مجلته أسمع صوته قويًّا خاليًا من الضعف والشكوى يحمد الله على كل شيء.. ويطمئننى أن المجلة ماضية تؤدى رسالتها فى سبيل الله ونصرة الحقيقة، وأنه يعتبرها حجته يوم يلقى الله.. إنه الصديق العزيز الحاج حسين عاشور صاحب مجلة "المختار الإسلامي".. التى جمع حولها نخبة من المفكرين والكتاب الإسلاميين المخلصين المتميزين.. وتخرَّج فى مدرسته نخبة من الكتاب والإعلاميين المتميزين أيضًا؛ باجتهادهم فى العمل وإحسانهم، وشعورهم بأنهم يؤدون رسالة قد تخلّى عنها أكثر العاملين فى حقل الصحافة والإعلام.. ولكى تتعرف على نسيج هذه الشخصية الصامدة المتفرِّدة، أحكى لك طرفًا من سيرتها الحافلة بالأحداث: فقد مكث فى أقبية سجون عبد الناصر سنوات شبابه وجزءًا من كهولته.. وفى عهد السادات وجد الفرصة لانطلاق مواهبه - الموروثة من عائلة عريقة فى النشر والصحافة وخدمة الإسلام - فأنشأ دارًا لنشر الكتب.. صدر منها المئات من المؤلفات القيِّمة، للعديد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين، اكتسبت شهرة فى العالم العربى والإسلامي، وكانت توزّع منها طبعات متوالية نظرا للإقبال الشديد عليها، فاقْتنى مطبعة حديثة لطباعة كتبه ومجلته.. فلما حلَّ عهد الطاغية مبارك تقلّص نشاطه، وأغلقت مباحث أمن الدولة مطبعته حتى صدأت معداتها وسلمتها له ليبيعها "حديد خردة" بملاليم.. ولكنه ظل يقاوم وينشر الكتب فى حدودٍ ضيِّقة.. تعرفتُ عليه فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى أثناء زيارتى لصديق مشترك، وعرف أننى مشغول بتأليف بعض الكتب عن قضايا المسلمين فى البوسنة وكوسوفا والشيشان، فرحّب بنشرها، وشجّعنى على الكتابة فى مجلته، فبدأت أكتب للمختار الإسلامى مقالة شهرية لم تنقطع حتى اليوم.. كانت مباحث مبارك له بالمرصاد تتربَّص به وتصادر كتبه وتسعى لتصفية نشاطه وتهدِّدُه بإغلاق المجلة تحت ذرائع متجدّدة دائمًا، ولكنه صمد وتذرَّع بصبر أيوب.. كان لسان حاله يقول: كل شيء يهون إلا إغلاق هذه المجلة.. فدونها رقبتى..! وقد عبّر عن استغرابه مرة لضابط كبير دأب على مهاتفته لإشعاره بأنه تحت الرقابة والتهديد الناعم المستمر.. سأله: إذا لم تكونوا تطيقون هذه المجلة فلماذا لا تغلقونها وتستريحوا..؟ فأجابه: نتركها فقط حفاظًا على المظهر الديمقراطيّ..! مع هذا التضييق المتواصل والحرب الخفية على المجلة انْحسر توزيعها فى عدة آلاف نسخة لا تكاد تفى بتكاليفها الفعلية.. وهنا يظهر له الشيطان فى ثوب المنقذ؛ الذى يملك المال الوفير والحلول السحرية لكل المشكلات.. قدّم نفسه إليه كوسيط لمنظمة أمريكية تدافع عن الحرية وتدعِّم الديمقراطية فى مصر.. سأله الحاج حسين: ولماذا تهتمون بهذه المجلة وأنتم تعرفون أن توجّهها إسلامي..؟ قال نعرف توجُّهها، ونعرف أنها تعانى مشكلات مالية وجئنا لك بالحل..؟ سأله: فى مقابل ماذا..؟! قال: بدون مقابل..؟ لم يكن الحاج حسين عاشور - وهو صاحب الخبرة بوسائل الأعداء فى استهداف الإسلام والكيد له.. ولإدراكه ضرورة الحفاظ على نقاء العمل الإسلامي - لم يكن ليستسلم للفخ المنصوب له، فرفض المال رغم حاجته الماسة إليه.. رفض أن يشوب العمل الإسلامى الخالص لوجه الله شائبة من مال مشبوه.. فقد كان واضحًا لديه أن من يمد يده لمالٍ مشبوه، يفقد استقلاله ويفقد حريته ويخضع راغمًا لأهواء صاحب المال وإملاءاته.. الآن.. لم تعد أمريكا وحدها هى مصدر الأموال المشبوهة فقد تعدّدت المصادر؛ وأصبحت لها وجوه عربيّة مألوفة وصديقة، تبذل المال علانية أو من وراء حجاب.. وظيفة هذه الوجوه الصديقة أنها تكسر الحواجز القائمة بين طوفان المال المشبوه وبين الضمائر الواهية لأصحاب الحاجات والطموحات؛ الذين لا يزالون يتشبثون ببقايا من إرادة المقاومة الأخلاقية، يتمسّكون بها على مضض.. فى أجواء إعلامية مسمومة وصراع محموم، ولكن ليست لديهم وسائل أخرى لتحقيق طموحاتهم سوى هذا المال السهل.. فلْيغترفوا منه الآن قبل أن ينضب معينه.. ثم يبحثون فى عقولهم عن ذرائع لإخماد همسات الضمير الواهنة التى تؤرِّقهم.. حتى تنطفئ جذوتها إلى الأبد، وينعمون براحة النسيان..! وهنا يتساوى الجميع: الذين سعدوا من بداية الشوط ببيع أنفسهم للشيطان عن رضا واقتناع؛ لخواءٍ روحى متأصِّلٍ فيهم، والذين لحقوا بهم بعد صراع قصير مع النفس اللوامة، قبل أن تتحول إلى نفسٍ أمَّارَةٍ بالسوء..! "اللهم إنى أعوذ بك من شرِّ نفسى ومن شرِّ كل دابَّةٍ أنت آخِذٌ بناصيتها إن ربِّى على صراط ٍمستقيم". [email protected]