لقد هدأت إلى حد ما الأزمة السياسية بين مصر والجزائر.. والتي تفجرت بسبب مباراة كرة القدم بين فريقي البلدين الشقيقين الكبيرين.. ولكن بعد أن استهلكت قدرًا كبيرًا من الجهد والعرق في غير موضعه.. وأظهرت هشاشة العلاقات السياسية العربية.. واضمحلال وضمور العقل العربي الجمعي إلى حدِّ الخطر. وإذا كان هذا الهدوء النسبي حدث بتعليمات سياسية في كلا البلدين.. شأنه شأن أي مشكلة.. فمن الأولَى أن تصدر هذه التعليمات قبل أن تحدث الكارثة وتأجّج نار الفتنة.. ويتبجح الإعلام في كلا البلدين ضاربًا عرض الحائط بكل القِيم والأخلاق والأعراف.. ولكن يبدو أن قيادات إعلامية ورياضية نافذة هنا وهناك لها هوى ومصلحة في افتعال هذه المعارك الوهمية.. وذلك للحصول على أكبر قدر من الأموال والألقاب والمناصب على حساب البسطاء الذين تآكلت مشاعرهم واحترقت عقولهم. لا أريد أن أكرِّر أو أذكِّر ببعض المهازل والمهاترات التي حدثت بين البلدين على لسان بعض المسئولين الرياضيين أو الإعلاميين.. فهذا لا يزال ماثلًا في الأذهان.. ولكن أريد البحث في المقاصد والدلالات لعلِّي أستفيد أو أفيد. وأوَّل هذه المقاصد.. هي معايير الانتماء للوطن التي اختزلت بشكل مخلّ في تشجيع الفريق القومي لكرة القدم.. وأنا لست ضدَّه.. ولكن ضد سفه التشجيع واختزال الوطنية بهذه الصورة المتعسفة.. والتي تحرم أغلب شرفاء وعقلاء هذا الوطن من شرف الانتماء وتلحقهم بطابور الخونة والعملاء. لماذا؟!!! لأنهم لم يشجعوا الفريق القومي.. ولم يلعنوا الجزائر بعد فوزها المشين على مصر.. ولم يصلوا ركعتين قضاءً للحاجة من أجل الفريق ولم.. ولم.... إلخ. وهذا الانسحاق الذهني الرهيب لا يقتصر على الدهماء من الناس.. ولكن ضارب بأطنابه في قلب النخب في معظم الدول العربية. ومن خلال هذا الاختزال والتسطيح تُنفَق الملايين والمليارات على لعبة يسعى كل وزير لإنشاء نادٍ رياضي يؤمن به المستقبل ويضمن الاستجمام فيه.. بعد عمر مديد في الوزارة عندما يخرج لا قدر الله على المعاش. إن الوطنية الحقة تعني الأمانة في الأداء.. والإخلاص في العمل.. والدفاع عن الوطن.. والارتقاء بالخلق.. والزهد في المنصب.. والتوبة عن التزوير.. واحترام حقوق الإنسان الأساسية.. ثم يأتي بعد ذلك تشجيع الفريق القومي لكرة القدم، أما العكس.. فلا وألف لا. ومن نافلة القول فإن الانتماء للوطن وحبه والدفاع عنه لا يتعارض مع الدين ولا يصطدم مع العقيدة.. بل العكس هو الصحيح، والأدلة على ذلك كثيرة ومشهورة.. حتى لا نخرج من مأزق الاختزال إلى جريمة الإلغاء والشطب.. بمعنى إلغاء الوطن وإدخاله عنوةً في الدين، وافتراض التناقض بينهما يؤدي حتمًا إلى محو أحدهما لصالح الآخر.. وهذا الفهم موجود ومنتشر وله أنصاره ومريدوه. ثم نأتي بعد ذلك إلى قضية أخرى طُرحت بقوة في هذه الأزمة، وهي قضية (القومية العربية) ولا سيَّما أن كثيرًا من الكتاب والمفكرين يرفضونها ويجرّمونها ويقولون: إذا كانت العروبة هي التي تجمعنا بالجزائر فلا حاجة لنا بها.. فهم يكفرون تمامًا بالانتماء العربي ويبحثون عن هويات أخرى. (فمصر) فرعونية.. و(سوريا) فينيقية.. والعراق آشورية.. والجزائر تبحث لها عن أي وثنٍ تنسب نفسها إليه.. وقِس على ذلك. ولا شك أن القومية العربية كمشروع سياسي فاشل بنسبه 100%.. والسبب أن الذين دعَوا إليه وأخرجوه إلى الحياة (ميشيل عفلق - جورج سعادة وآخرون) جردوه من أهم عنصر فيه وهو الإسلام.. فلا قومية عربية بغير الإسلام... لماذا؟! لأن العرب كانوا شذاذًا في الآفاق لا وزن لهم ولا قيمة، لا يعرفون إلا سفك الدماء وأكل الربا وشرب الخمر وارتكاب الفواحش.. حتى جاء الإسلام فاجتمعوا عليه فتحولوا إلى أمة متحضرة تسمى الأمة العربية.. ولا بأس أن نقول الأمة الإسلامية. ولذلك أي مشروع سياسي يهدف إلى توحيد العرب بعيدًا عن الإسلام محكومٌ عليه بالفشل.. وهذا لا يعني أن نكفر بالعروبة كانتماء قومي، فهذا خطأ وخيانة وعار.. ولكن نسعى إلى بعث جديد يختلف عن بعث (ميشيل عفلق وأمثاله). وأيضًا من الدلالات المهمة التي لوحظت في هذه الأزمة العاطفة الجياشة والإحساس المرهف المائع الذي أظهره أغلب الناس تجاه اللعبة التي أقطع أنها مُسيَّسة وموجهة.. وإلا فما هو التفسير المنطقي لهذا الإجماع الجارف حول الفريق القومي لكرة القدم؟! وهل يمكن جمع الناس على شيء مهما كانت أهميته بهذه الصورة؟! والإجابة معروفة.. وعند الحديث عن الأسباب تسمع من يقول لك: الناس مكبوتة ومقهورة، وهذا المتنفس الوحيد لهم لنسيان ما هم فيه ولو مؤقتًا. وآخر يقول: لا يوجد شيء يستحق الاهتمام في هذه البلاد أو يمكن أن يشارك فيه المواطن بشكل مباشر ومؤثر سوى كرة القدم. وثالث يذهب بعيدًا محلقًا في سماء المؤامرات الأجنبية التي تُحاك لنا ليل نهار لاستنزاف طاقة شبابنا وإلهائنا عن قضايانا الأساسية. وكل هذه التفسيرات فيها قدر من الصواب ولها نصيب من المصداقية. ولكن السؤال المهم هو: من الذي استخف بعقل الآخر؟ هل النخب المسيطرة استخفت بعقول الشعوب ليطيعوها ؟!! أم أن جهة أخرى استخفت بعقول الشعوب والنخب الحاكمة معًا؟!!! أم أن العالم كله ضائع ومهمش.. وكل قوة تستخف بالتي تحتها.. ولأننا قوة صفرية فالعالم كله يستخفُّ بنا ولا نجد من نستخف به؟!!! المصدر: الإسلام اليوم