تشيع فى بعض الدوائر الإعلامية المصرية حالة من التوجس والحذر إزاء المباراة المرتقبة بين مصر والجزائر التى تقام اليوم فى أنجولا. إذ منذ لاح فى الأفق احتمال المواجهة بين منتخبى البلدين، بدأ التلميح والشحن وظهرت على شاشات التليفزيون صور أحداث الخرطوم، فى استعادة للأحداث المؤسفة، التى وقعت آنذاك من قبل المشجعين. ورغم أن بعض الناقدين الرياضيين المحترمين عبروا عن فرحتهم وتقديرهم لما حققه المنتخب الجزائرى حتى الآن فى مباريات التنافس على كأس أفريقيا، فإن الموقف لم يكن كذلك من قبل آخرين. خصوصا بين مقدمى البرامج التليفزيونية. وهم الذين لعبوا الدور الأكبر فى الإثارة والتهييج وغرس بذور الحساسية والنفور بين جماهير الكرة فى البلدين. إذ لا مفر من الاعتراف فى هذا الصدد بأن الإعلام المرئى أصبح الأكثر والأخطر تأثيرا فى تشكيل الرأى العام. وتتضاعف تلك الخطورة حين يكون بعض مقدمى البرامج من الشعبويين وأنصاف المتعلمين، الذين يهتمون بإثارة الغرائز واللعب على العواطف، ولا يفرقون بين الانتصار فى مباراة كرة القدم وبين خوض أى معركة أخرى من معارك المصير. الموقف مختلف نسبيا فى الجزائر. لأن التليفزيون الخاضع لسيطرة الدولة والصحف المعبرة عن الحكومة لم تشارك فى حملة التراشق المفجع التى أعقبت مباراة الخرطوم، وإنما أشعلت الحريق وأججت نيرانه بعض الصحف الخاصة الصفراء، التى ردت عليها بعض منابرنا الإعلامية بمثل ما فعلت وربما أسوأ منه.
لست هنا بصدد الحديث عما جرى، لكنى أحسب أن الذى لم يجر أسوأ منه بكثير. إذ أزعم أن مشهد العلاقات المصرية الجزائرية خلال الشهرين الماضيين يعد شهادة على هشاشة وبؤس العلاقات العربية العربية. فهذان البلدان اللذان جمعتهما يوما ما رفقة النضال ضد الهيمنة الغربية وربطت بينهما أواصر نسجتها علاقات اتسمت بالمؤازرة والمروءة والنبل، باعدت بينهما أخيرا مباراة لكرة القدم. وبسببها خربت جسور، وأهدرت مصالح وشحنت بالمرارة بعض النفوس، وسحب السفير المصرى من الجزائر، ومر شهران على ذلك، دون أن يبذل جهد من أى طرف لوصل ما انقطع أو ترميم ما انهدم. (أمس الأربعاء ذكرت الصحف المصرية أن اتصالا هاتفيا تم بين وزيرى خارجية البلدين اتفقا فيه على «التعامل الحكيم» مع المباراة).
لقد انتابنى شعور بالانكسار والحسرة حين سمعت من قال إن أحداث المباراة البائسة أقامت «حاجزا نفسيا» بين الشعبين المصرى والجزائرى، لأن ذلك المصطلح كان يطلق يوما ما على العلاقات بين مصر وإسرائيل، وحين زار الرئيس السادات تل أبيب فى عام 1977 فإنه قال وقتذاك إنه أراد أن يكسر ذلك الحاجز النفسى. ويستحى المرء أن يذكر أن الحاجز الذى انهدم رسميا على الأقل مع إسرائيل، فإنه استبدل بحواجز أخرى أقيمت بين الشعب المصرى من ناحية وبين الفلسطينيين والجزائريين من ناحية ثانية. والحال أسوأ فيما خص الجزائر، لأن ما قام بين المصريون والفلسطينيون له أسبابه السياسية، التى انبنت على الموقف من المقاومة، أما ذلك الحاجز المفتعل الذى أقيم مع الجزائريين فمصدره التنافس بين الغوغاء بسبب مباراة لكرة القدم.
إننى أستغرب هذا الفتور فى علاقات البلدين الذى وصل إلى حد الجمود. فلا الرسميون تحركوا ولا أى جهة أهلية فى البلدين عملت على احتواء الموقف، الأمر الذى يدل على قصور فى رؤية السياسيين، كما يدل على مدى الخواء والهشاشة، التى يتسم بها المجتمع المدنى فى البلدين. وكأن الأحزاب والاتحادات والنقابات وغيرها من المؤسسات المنتخبة كلها ذيول للموقف الرسمى وأدوات للحكومات. ومن المؤسف أيضا أن تكون لدينا «جامعة عربية» تعتصم بالصمت وتقف متفرجة أمام الأزمة الوهمية بين الشقيقين، أما مصر الكبيرة فلم نلمح قامتها فى هذا المشهد، وإنما وجدناها تغفر الكثير من الجرائم للإسرائيليين حتى استقبلت بعض أشهر قتلة الأسرى المصريين فى عام 1967 (الجنرال بن أليعازر وزير البنية التحتية الحالى)، لكنها لم تتسامح مع مشجعى الكرة الجزائريين، إنها بعض علامات الساعة الصغرى.
(للعلم ذكرت صحيفة الشروق أمس أن الوساطات العربية فشلت فى تنظيم لقاء بين الرئيسين مبارك وبوتفليقة، وفى اليوم ذاته قال السفير الإسرائيلى فى القاهرة إن شمعون بيريز زار مصر ثلاث مرات فى العام الأخير وكذلك بنيامين نتنياهو).