قامت ثورة يناير قبل عامين وشارك فيها كل أطياف الشعب المصرى، وكانت ثورة سلمية شهد بها القاصي والداني، وبعد الثورة دخل المغرضون على الخط، ومنهم إعلام مبارك وقنواته التى يمتلكها أصدقاؤه من رجال الإعلام، وأشاعوا الفرقة وصدروا للناس الكذب والبهتان، وحاول المجلس العسكرى آن أن يرضى الناس على حساب الصالح والاحتياطى الاستراتيجى، فكان أن انخفض هذا الاحتياطى فى أقل من 18شهرًا إلى 20مليار دولار نتيجة تلبية المطالب الفئوية التى انفجرت فى كل مكان وعمت الإضرابات والفوضى، حتى إننى قابلت أحد هؤلاء العاملين الذى أمضى فى الجامعة مدة تزيد على عشرين عامًا فى وظيفة عامل أمن، لم يزد راتبه (أول عن آخر) عن ستين جنيهًا، وكانت على قلبه أحلى من العسل، كان يحيي المديرين ويسترضيهم طوال الوقت، الذين كانوا يتصرفون بغلظة وصلف وعناد وجبروت، فرأيته بعد أن زاد مرتبه عن الألف يضرب عن العمل ويلعن ويسب فى نظام مرسى الذي رفع أجور الأساتذة عن العاملين.. تخيلوا!! وتعطل العمل جراء ذلك شهورًا .. كانوا فى الماضى يقبّلون أيديهم على القليل، وكانت السلطات تشحنهم فى حافلات لاستقبال ولى العهد جمال وأمه شجرة الدر (أقصد سوزان مبارك) وعند الانتخابات كانوا أول الذاهبين للتصويت لمرشح بعينه... يريدون أن يتساووا مع أستاذ الجامعة الذى ينفق على أبحاثه آلاف الجنيهات وكذلك ينفق وقته فى خدمة العلم والبحث العلمى على حساب أسرته وأولاده. هذا نموذج من الإضرابات والاعتصامات التى جرت على مدار سنتين وعمت جميع الأعمال، والوحيد الذى قاطع مهرجانات الإضراب والاعتصام هو الفلاح المصري، الذي لم يتعطل يومًا عن العطاء والإنتاج، يذهب إلى حقله فى الشتاء حيث الصقيع والبرد، يرتدي ملابس فقيرة لا تقيه البرد، ولكنه يتشح بالإرادة والصدق والإخلاص.. ينزل المياه ليروى الزرع، لا يتكاسل.. لا يأخذ رشوة مثل الموظف الذى يمكث فى المدينة، ولم نجده يبتز النساء العاملات عنده لقاء استمرارهن فى العمل، لا نجده يجلس بالساعات ليدخل فى حوارات بيزنطية تعطل الوقت والجهد تزرع الحقد، ولكنه فضل أن يزرع لنا الأمل، أقصد الزرع.. فهو على الدوام يتحرى الحلال ووقانا بعمله هذا غلو الأسعار فى الثمار والخضراوات التى انخفضت بوضوح نتيجة عمله وكده.. يقبل على العمل بأريحية تامة، بل تراه شاكرًا طوال الوقت، يبتهل إلى الله قائلًا: (اللهم زدها نعمة).. لم نجده يضرب عن العمل إلا فى حالات محددة وهى مشاركة الناس فى الأفراح والأحزان.. وغير ذلك فهو متواجد طوال الوقت فى الحقل يدبر أموره .. نراه يبدع فى تدبير أموره الأقتصادية والمالية بما ينوء بعمله خبراء الاقتصاد، الذين يهبرون الأموال الطائلة، وبالرغم من ذلك يتسببون فى وعكات اقتصادية ومالية. رأيت يومًا وأنا ذاهب لعملي صباحًا امرأة عجوزًا محنية الظهر وبالرغم من ذلك لم تجلس فى البيت أو تذهب لمسئول ولم نرها أمام الأجهزة الحكومية تهاجمها بالمولوتوف والطوب، ولكننى وجدتها تسوق أمامها بضع أغنام فى مشهد أعجب الجميع، وقتها تصورت سجاح (أم جميل) وهى تثبط العزائم كل يوم بما تبثه من ضلالات وأكاذيب، تعمل هذه العجوز لقاء جنيهات قليلة تجدها فى نهاية الموسم ولكن الله يبارك فيها، بينما نجد من يدخل جيبه الملايين شهريًا، ويخرج لنا لينحل فى وبر هذا الوطن ويستخدم معوله فى هدم جدرانه وإشاعة الفتن والاحتقان، ويتجر بالدماء والمشاكل بل يسكب المزيد من البترول عليها لتشتعل لأن وجود هذه المشاكل فى صالحه وضمان لوجوده وبقائه. أتمنى من أولى الأمر الاهتمام بالفلاح المصري الذي يتاجر به في كل العصور ولم يجن هو من هذه التجارة شيئًا سوى الآلام والتهميش، وتحُكم الرأسماليين والفلول فى مصدر رزقه، يغلون عليه المحاصيل والمبيدات والأسمدة وكذلك إيجار الأراضي الذي زاد فى السنوات الخمس الأخيرة من ألف جنيه للفدان إلى عشرة آلاف هذا العام (واللى مش عاجبه)، كم تمنيت أن أرى مسئولًا يزور هذا الفلاح فى مكان عمله.. أحب أطمئنهم أن الطرق ممهدة وواسعة، وإذا فعلها لن يجد الزحام الذي يجده المدينة، حتى المهندس الزراعي الذي كان يرشد الفلاح عن قرب قاطع هو الآخر الفلاح فى السنوات الأخيرة، وأصبح يمكث فقط فى الجمعيات الزراعية، يمضي أوقاتًا سعيدة (إن ذهب من الأصل ولم يزوغ أو يأخذ خط سير وهم) فى ثرثرة كاذبة لا تفيد العمل الزراعي في شيء. [email protected]