ما زالت مشاهد الديكتاتورية التى امتدت لعقود من الزمان فى دول الربيع العربى حية فى الأذهان بكل حذافيرها وتفاصيلها... ففى تونس ومصر وليبيا واليمن كان الديكتاتور الحاكم ليس فقط هو المهيمن على السلطة والمال ومصير البشر، بل اعتقدت حاشية كل ديكتاتور من هؤلاء أن القرب من الديكتاتور هو بديل عن الاقتراب من الله، والديكتاتور كان يحكم بمجرد وجوده.. لا بقوانينه.. و لا بمرسومه، فما ترتأيه الدولة التنفيذية ووسائل الإعلام التابعة قريب ومحبب من نفس الديكتاتور.. تقبل عليه وتفعله بكل تفانٍ واجتهاد... وما ترتأيه الدولة التنفيذية ووسائل الإعلام بعيد عن رضا الديكتاتور وذوقه.. تنفيه وتنبذه، فالديكتاتور كان هو الحاكم الخليل.. الذى يتخلل كل شىء.. وكانت الوطنية خلاصتها تعظيم الديكتاتور والثناء والإطراء على كل ما يفعل وكل ما يترك... ولهذا كان حوارى مبارك فى مصر يقيمون له التماثيل الشخصية بمئات الآلاف كطقس من طقوس التعبد والتقرب... وفى ليبيا كان صغار الضباط يقومون برمى آبائهم بالرصاص الحى رميًا أمام عين "الأخ القائد الفاتح أبدًا" لا لشىء سوى لإثبات ولائهم وإخلاصهم الأعمى للديكتاتور... تمامًا كما كانت الطقوس تقتضى فى عهد لينين وستالين الفاشى، وكانت طقوس التعبد فى اليمن، وتونس وإن اتخذت أشكالًا أخرى، فهى لا تخرج عن هذا المنوال.. و بالطبع من اعتاد حياة الآلهة يشعر بالدين الإسلامى فى صدور "عبيده" على أنه خصم مرفوض وعدو لدود، ولا يجد حرجًا فى أن يحارب مثل هذا الدين.. بالتجهيل الدينى لأجيال كاملة فى التعليم.. وبحرب التشويه فى الإعلام التابع المتعبد المسبح فى محراب الديكتاتور.. وبأجهزة أمن سرية فوق القانون تعمل فى الداخل والخارج لإنجاز مهمة واحدة، وهى القضاء على أتباع الدين "المبتدع".. دين الله الواحد الأحد الذى يفنى كل عظيم و لا يفنى هو. ثم أذنت السماء لشعوب هذه الدول أن تنتفض.. تكفر بالديكتاتور ربًا... و بفساده و بإفساده دستورًا.. وأن تجود بالدم.. وأن تجود بالنفس.. من أجل حرية الدين.. حرية العبادة لله.. من أجل الكرامة التى جعلها الله هبة ربانية قرينة الإنسان.. ومن أجل رد الحق إلى أهله.. أو ما يسمى بالعدالة الاجتماعية.. وتمت معاملة الديكتاتور وحاشيته معاملة المحتل الدخيل المغتصب.. الذى صارت مواجهته تعبدًا إلى الله فى السماء. و جاءت الثورات فى دول الربيع العربى بأنظمة ديمقراطية المنشأ والمولد.. فى زمن يرفض الانقلابات على النمط الإفريقى القديم.. نمط انقلاب حفنة من العسكر على النظام الديمقراطى الحاكم.. وجاءت الثورات أيضًا بذلك الطريد المحارب... الدين الإسلامى كأساس للعمل السياسى والتعبوى، وإعادة هيكلة المجتمع وكتابة الدساتير. و فى ظل جيش موال لدولة سيادة القانون والحق.. وفى ظل جيش مرتبط بشراكات ومعاهدات دولية مع قوى ديمقراطية نافذة فى المجتمع الدولى.. استيأس المشتاقون فى الداخل والخارج إلى صنم جديد.. فى أن يقوم الجيش بالانقلاب، فكان لابد من الابتكار لأتباع الدين القديم وأنصارهم فى الخارج للقيام بانقلاب من نوع آخر جديد بطىء، وبعيد المدى يجيب على تفاصيل المشهد السياسى المعقد، إذ إن الإطاحة بنظام ديمقراطى أصعب بكثير من الإطاحة بديكتاتور واحد.. اجتمع الانقلابيون من فلول وحاشية نظام بائد.. ومن أصحاب مسمى "الدولة العميقة".. ومن خاسرين للعبة الديمقراطية وهم النخبة.. ومن إعلام أيديولوجى لا ينطق إلا عن الهوى، ولا يحدث إلا بالباطل.. ومن مال لا حصر له مشبوه.. مستغلين جميعًا حريات غير مسبوقة يوفرها لهم الديمقراطى الإسلامى الجديد.. وهدفهم جميعًا واحد: الانقلاب على هذه الكائن الديمقراطى الإسلامى، والإطاحة به سريعًا من قلوب من أتوا به أولًا.. ومن سدة الحكم ثانيًا.. وذلك بإظهاره رغم أنفه على أنه للأمانة كغيره ممن سبقه مضياع.. ولدم الأبرياء مسفاك.. وعن رد الحق إلى أهله متقاعس.. نعم على أن مجيئه كان ذلة قلم فى لحظة غاب فيها وعى التاريخ.. وتوزعت الأدوار... فهذا انقلابى مجاهد بماله فقط... وهذا انقلابى مجاهد بلسانه وقلمه وصحفه وفضائياته... وهذا انقلابى مجاهد بالحشد الجماهيرى للمظاهرات "السلمية بالمولوتوف والشماريخ".. وهذا هو فصيل الدم.. الذى ينكل باسم النظام الديمقراطى الحاكم بذلك المتظاهر أمام كاميرات العالم، ومن خلف الكاميرات ويزهق الأرواح ويسفك الدم. قصة هذا الانقلاب.. حكته لنا فى الأيام الماضية واقعة محمد الجندى، ابن طنطا، وحكته قصة حمادة صابر فى القاهرة، ويحكيه المجرمون والبلطجية وضحاياهم كل يوم فى ربوع مصر.. وتحكيه قصة اغتيال السياسى التونسى شكرى بلعيد فى تونس، وتحكيه قصة حرب الاستنزاف الأهلية فى بورصتى السلاح فى المنطقة: ليبيا واليمن.. الانقلاب الدموى المبتكر يريد إرسال رسالة لشعوب الربيع العربى والعالم.. أن هذه الثورات كانت مجرد انفلات للتاريخ من القضبان المخصصة له، وأن الحل هو العودة إلى ديكتاتورية العهد القديم التى من أنعمها الاستقرار مع الذل والهوان واغتصاب البلاد والعباد والسجون العائلية الجماعية والإعلام المسبح المغرد..إلخ.. من "النعم" المعروفة. إن أخطر ما فى هذا الانقلاب المتأجج الذى نرى فصوله ليل نهار هو أن لا يدرك الحاكم الديمقراطى فى دول الربيع العربى مدى فداحة وجاهزية هؤلاء الانقلابيين وفداحة ما يسفر عنه نجاحهم لعقود لا يعلم طولها إلا الله. إن المطلوب اليوم قوة وحزم لمن آلت إليه الولاية على الحق فى مواجهة حق قوة البلطجة على التاريخ والشعوب.. والأهم من ذلك هو أن يأتى هذا الحزم و هذه القوة سريعًا سريعًا.. قبل فوات الآوان.