قبل سبعة آلاف سنة أهدت مصر إلى البشرية شكلا اجتماعيا جديدا وعبقريا هو «الدولة»، بعد أن شيدت بنيانها على ضفاف النيل العظيم. وقبل مئة وخمسين سنة تقريبا علّمت مصر الشرق بأسره فكرة «البرلمان» عندما تم إنشاء مجلس شورى النواب. وواصلت التجربة تقدمها حتى أن الهند، أكبر ديمقراطية في العالم حاليا، كانت تدرس مع مطلع القرن العشرين آفاق الخبرة السياسية المصرية. وكان غاندي يحلم بأن يصل إلى ما ارتقاه سعد زغلول. اليوم تهدي مصر إلى الدنيا شكلا جديدا من الممارسة السياسية، يتمثل في «تأجير المتظاهرين»، بعد أن لجأ الحزب الحاكم إلى حشد فقراء معدمين للتظاهر في وجه جمهور المعارضة مقابل أقل من ثلاثة دولارات لكل متظاهر. كنا نعرف ظاهرة «الصوت مقابل المال» خلال الانتخابات، وهي للأمانة لا تٌتّبع في مصر وحدها بل في العديد من بلدان العالم الثالث، لكن أن يتم شراء متظاهرين، فهذا هو الجديد والغريب والمضحك في الوقت نفسه، ليس من باب الدعابة أو الفكاهة، لكن لأنه من شر البلية. والبلاء الذي أتحدث عنه هو ما طال الحزب الحاكم، من عدم قدرة على حشد الناس لتأييده رغم كل ما لديه من إمكانات مادية هائلة، وتاريخ طويل من القبض على زمام الأمور، وجهاز إعلامي رهيب يتغنى به ليل نهار، وطابور من المنتفعين والمنتظرين، ومقار بكل حي من أحياء القاهرة، وكل مدينة مصرية، وحق مفتوح لتعبئة الناس في أي مكان شاء. وهي مسألة غير متاحة لأحزاب المعارضة أبدا، تحت طائلة قانون الطوارئ البغيض، الذي يمكن أن يحول تجمع خمسة أصدقاء في مكان عام إلى جريمة تدخلهم إلى غياهب السجون، بتهمة التجمهر وتعكير صفو الأمن، وربما التخطيط لقلب نظام الحكم. كنا نتمنى أن يكون لدى الحزب الحاكم قدرة على التواجد خارج دواوين الحكومة، حيث يضغط كبار رجال الجهاز البيروقراطي على صغار الموظفين كي ينحازوا قسرا أو طمعا إلى خيارات السلطة. وفي العشوائيات المنتشرة كالزوائد الدودية حول القاهرة، تضغط السلطات والأمعاء الخاوية على الناس فيتدفقون إلى وسط القاهرة مع مؤجريهم. ويقفون أمام مبنى نقابة الصحافيين الفخم الضخم المهيب ليهتفوا ضد «كفاية» و«الإخوان المسلمين» و«أحزاب المعارضة الرئيسية»، وبعضهم لديه استعداد لارتكاب جريمة ضد خصوم النظام، رغم أن كثيرا منهم لا يعرف ما يجري بالضبط، ولا يفهم ما هو «تعديل الدستور»، بل إن منهم من لا يعرف كثيرا عن «الحزب الحاكم». لقد قرأت في بعض الصحف المعارضة والمستقلة عن هذه الظاهرة، ولم أصدق كل ما جادت به السطور، وقلت ربما هناك مبالغة أو كيد، كما يحدث أحيانا مع معارضة مستضعفة لا تمتلك إلا «حق الصراخ». لكنني شاهدت ما يجري بعيني، ومن رأى ليس كمن سمع. فأثناء مشاركتي مع عدد غفير من الصحافيين والكتاب في مؤازرة القضاة يوم جمعيتهم العمومية التي طالبوا فيها باستقلالهم . وتمكينهم من الإشراف على العملية الانتخابية كاملة، رأيت بالقرب من سرادقهم المهيب، الذي كان يغص برجال العدالة ومؤيديهم، حافلات ضخمة تقف على بعد أمتار، وتفرغ ما في جوفها من رجال ونساء، كبار ويافعين، أكل الفقر نضارة وجوههم، وطبع قسوته على ملابسهم وطريقتهم في التعبير. وعلى سلالم نقابة الصحافيين تراصوا في صفوف متتابعة، وراح شخص يشبه «مقاولي الأنفار» يوزع عليهم بيده صورا كبيرة وهتافات. ومن عجائب الأمور أن هؤلاء المعدمين يقفون بأفواههم، وعضلاتهم إن احتاج الأمر، إلى جانب الحكومة مع أن مكانهم الطبيعي هو معسكر المعارضة، شأنهم في هذا شأن كل المغلوبين على حالهم، المطيعين للأوامر من دون تفكير ولا تدبير، مع أن هذه الأوامر ضد مصلحتهم، الآنية والمستقبلية. وبدلا من أن تلتفت الحكومة إلى هؤلاء الفقراء فتنهض بأوضاعهم المزرية، وإلى هؤلاء الأميين فتعلمهم مبادئ القراءة والكتابة التي تمكنهم من فهم ما يجري، تستغل هاتين العاهتين الاجتماعيتين الكفيلتين بتدمير أي أمة من أجل استمرار سطوتها.