فى الستينيات الميلادية كان القارئ الشيخ محمد صديق المنشاوى يقرأ بصوته العذب الشجى المؤثر فى إحدى الحفلات، وأخذ "الجلالة" أحدهم فقام يصرخ وهو يقول: "الله يخرب بيتك يا شيخ إيه الجمال دا كله إيه دا؟ كلكم تقرأون قرآن يا بيت القرآن حمامكم يقرأ قرآن وفروجكم – يعني "فراخكم" يقرأ قرآن!! ومات الحضور ضحكا ولم يستطع الشيخ رحمه الله أن يمسك نفسه من الضحك الخفى الذى ظهر على وجهه فى صورة ابتسامات عريضة كتمها بوضع يده على فمه مخافة أن ينفلت ضحكا مثل السامعين. وفى الخمسينيات - إن لم تخنى الذاكرة - كان القارئ الشيخ مصطفى إسماعيل يصدح بآيات الله فى حفل بهيج فى مسجد السلطان أبو العلا فى بولاق بالقاهرة، وقد شرق الشيخ وغرب وأخذت التجليات من الشيخ مأخذها بالحضور وعلا صوت السميعة فى تواصل مع آيات الله الكريمة التى تأخذ بالألباب وإذا بواحد من "السميعة" خرج فعلا عن الشعور الكلى وقالها بصوت عال فى وجه الشيخ: "يا ابن الكللللللللللللللب دبحتنى بصوتك الحلو"!! وهنا لم يملك لا الشيخ ولا الحضور أنفسهم من الضحك العالى وخرج الرجل إلى الشارع - أو أخرج - بعد أن كاد الحفل القرآنى المهيب يخرج عن هيبته ووقاره. مع أن الرجل فعل ذلك بحسن نية وحب غامر لا يقصد به الإساءة لا للشيخ ولا لكتاب الله الذى يجب أن يسمع ولا للمسجد الذى يتلى فيه كتاب الله الكريم.. استطردت بالقصتين بعد أن أسعفتنى بهما الذاكرة وأنا أستنزف الدمع وأنا والله صادق، خاليا مع نفسي، بسماعى لخطبة الجمعة الدكتور الشيخ محمد العريفى من على منبر جامع عمرو بن العاص، ووجدتنى أقولها على "منك لله يا العريفى"، حبًا طبعًا وليس كرهًا أو دعاء عليه بعد أن أبكانى وأشجانى طوال الخطبة وهو يهز المنبر هزا، ويلقى خطبته العصماء بحماس وقوة ومعلومات وافية وقصصا مصرية جميلة وروحا إسلامية تحب مصر حبا جما. وأقول: من لم يبكِ من خطبة الشيخ العريفى فاسمحوا لى أن أصفه بأنه و"عير الحي" - أعزكم الله - سواء، وليتخذ له تبنا يأكله ووتدا يربط نفسه فيه.. والشيخ ذكرنا فى خطبته الجميلة بالأشياء الجميلة.. منها كرم يوسف الصديق، والغوث لبلدان الدنيا فى السبع الشداد، ومنها كتب الرسول للملوك والزعماء ومنهم من مزقه ومنه من رد ردا غير طيب إلا المقوقس عظيم القبط فى مصر آنذاك الذى أكرم رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو (حاطب بن أبى بلتعة) وأطعمه وأنزله المسكن الطيب وأعطاه هدية له وهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدايا أيضا. ومنها كرم مصر لأهل المدينة فى عام الرمادة وكيف أرسل عمرو بن العاص الغوث لعمر بن الخطاب عيرا أولها فى المدينة وآخرها فى مصر. وأبدع العريفى فى ذكر من جاء مصر من العراق والشام واليمن وقرطبة وشاطبة بالأندلس فصاروا أئمة كبارا مثل الإمام الشافعي، صلاح الدين، والعز بن عبد السلام، القرطبى وغيرهم من الأئمة الأعلام وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكرنا بتكية المصريين فى مكة وأن أبناء العالم الإسلامى يأكلون من هنا وهناك من باكستان وأفغانستان وأهل مكة يأكلون بالمجان. وأشجانا بحفاوة أهل مصر بأحفاد الصحابة وأهل البيت الكرام الذين نزلوا مصر أكرموا أهل بيت رسول الله وصاحبته وكانوا أكثر الناس غيرة على عرض رسول الله. وأشاد بتفوق المصرين المبرزين علما وفلكا وطبا وفضل الله عليكم لا ينكر حتى على المملكة بلاد الحرمين.. وقال إن ارتباط المملكة أرض الحرمين بمصر عتيق والله ما درس فيها إلا المصريون درسونى ودرسوا غيرى أول جامعة فى السعودية رأسها رجل مصرى وفى بلاد الخليج إلا وجدت لمعلم مصرى عليه فضلًا بداية المناهج الحكومية كانت من مناهج مصر ومستشارون مصريون يؤلفون معهم. قال إن وجهاء مكة ووجهاء جدة يتذكرون أول طريق معبد بين مكةوجدة صنعته مصر وأن أول بعثات علمية من السعودية كانت لمصر وأول إمامة كانت من أهل مصر الشيخ عبد الظاهر أبو السمح من الإسكندرية ولم يتولها غير المصريين، وهو أول من استعمل مكبر الصوت فى الحرم. ومحمد عبد الرزاق حمزة جاء من مصر للمسجد النبوى والمسجد الحرام وإمام الحرمين الحرام والنبوى وشارك فى تأسيس دار الحديث المكية. عبد المهيمن أبو السمح تولى إمامة وخطابة المسجد الحرام وكان له أثر فى إنشاء رابطة العالم الإسلامى وهو صاحب أقدم تسجيل تليفزيون فى الحرم، وعبد الرزاق عفيفى وتتتلمذ كبار العلماء عليه وعلماء شابت لحاهم فى كبار العلماء من تلامذته وكان عضوًا فى كبار العلماء ونائبًا لرئيس لجنة الإفتاء وكلهم يذكرونه بالخير والعلم والذكاء وووووو. المصريون مقرئو القرآن فى الدول العربية والخليجية والعالمية وفى الخليج وفى كل الدول الأخرى. وقال : إن مصر ليست للمصرين وحدهم بل للعالم كله وأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانوا يحبون عبد اللطيف بن عبد الرحمن جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب مكث ثلاثين سنة يطلب العلم وعاد يعلم العلماء ما تعلمه من مصر من بلاغة وبيان وعلوم شرعية وكان يلبسه ملابس الأزهر فى السعودية حتى مات رحمه الله. وجاء الرجل على بيت القصيد حيث قالها بعقلانية قبل أن تكون حماسًا فقط: إن مصر ليست أقل من كوريا أو ماليزيا أو تركيا فيها من المقدرات الكثيرة شريطة أن تجتمع كلمتهم وتوحد رايتهم بلد تاريخى مجيد، وختم بقوله أيها المصريون فوتوا الفرصة على المتربصين بكم وبثورتكم والمراهنين على فشلكم وفشلها. وأطلقها دعوة الاستثمار مصر أولى من بنوك سويسرا وأموال الخليج هل نجعل أموالنا عند أقوام ربما يستخدمونها فى الحرب علينا وكم مليارات خرجت وأودعت لديهم وما استطعنا أن نستردها. وتساءل بحسرة بالغة: أين وصية رسول الله بمصر هم أولى الناس بأموالنا والاستثمار وأولى الناس بإنشاء المصانع؟ ثم ختمها بكلمة التجار والأثرياء الذين يتكبرون بأموالهم عن مصر: "وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"، وليغنى الله مصر وأهلها عن عفن أموالكم.. وقالها صريحة مجلجلة تميل قلوبكم لبلاد فيها من الفجور والفساد والعفن فسحقًا والله لأموالك، فكل مال لا يكون لرزق صالح وتعاون للناس فهو حسرة على صاحبه يوم القيامة. أثرياء الخليج والسعودية لهم حب ورغبة لتيسير الاستثمار لا تلتفتوا إلى إعلام مضلل، وقال إن رزق الله قادم وأبشروا ولا تلتفتوا لمن ينفخ النيران مثل الوزغ الذى ظن أنه شيء مهم فنفخ النار على إبراهيم ظنا منه أنه سيحرق إبراهيم، فبعض الناس مثل الوزغ تقرير سيء وهو أقل وأحقر من الوزغ. وهؤلاء مثلهم مثل بالذباب وقف على الشجرة وقال تمسكى حتى لا تتأرجح أركانك فإنى سأطير فقالت له ما شعرت بك حين حططت على فروعى فكيف أشعر بك وأنت راحل عنها". دعونى أقلها فى نهاية هذا الكلام الجميل للعريفى: بالله عليكم من يسمع مثل هذا الكلام الشجى وهو يلقيه بلسان فصيح وحماس قوى وحب صادق وبيان راجح، قول ناجح، ولا يملك دموعه؟! إذن لم أكن مخطئًا وأنا أقول "منك لله يا العريفي.. لقد استنزفتنى دمعًا". دمتم بحب [email protected]