بدت كوندوليزا رايس في قمة تألقها وهي تحاضر في العشرين من هذا الشهر في إحدى قاعات الجامعة الأميركية بالقاهرة ثم تنتقي محاوريها وترد عليهم. كانت الرسالة واضحة: الديمقراطية هي أساس السياسة الخارجية الأميركية الآن في الشرق الأوسط. نعم، لقد تجاهلت الولاياتالمتحدة ذلك طويلاً قرابة الستين عاماً من أجل الاستقرار فلم تتحقق الديمقراطية ولم يتحقق الاستقرار. لهذا السبب دافعت رايس باستماتة عن الديمقراطية، ولم تكن بحاجة لذلك بكل تأكيد، فجمهورها سواء من الموالين لها أو من المعترضين عليها متفق على أهمية الديمقراطية ومحوريتها. نفت أن تكون الديمقراطية طريقاً للفوضى والصراع، هي على العكس الآلية الوحيدة للقضاء على الانقسامات والعنف، وألمحت على نحو غير مباشر إلى أن التنمية قد تتحقق دون ديمقراطية، لكن الإمكانات والطاقات الإنسانية المبدعة لا يمكن أن تصل إلى غايتها إلا بالديمقراطية. ارتدت رايس مسوحاً من "الحتمية التاريخية" بحديثها عن حتمية انتصار الحرية والديمقراطية. لقد هُدِدت الحرية حيناً بالعبودية وانتصرت، وحيناً آخر بالاستعمار وانتصرت، والآن ها هي الحكومات غير الديمقراطية تهدد الحرية لكن العالم المكتمل حرية وديمقراطية قادم لا محالة، وكان يُظَن بأن ذلك مستحيل. بدا في ظل هذا التكييف الجديد للسياسة الأميركية أن الحديث عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من قبيل الترف أو الأمور الثانوية، فاختارت في محاضرتها ألا تتناوله غير أن أحد محاوريها أعادها إلى هذه المنطقة غير المحببة للسياسة الأميركية فولجت إليها من مدخل الديمقراطية أيضاً، فحل الصراع هو دولتان ديمقراطيتان تعيشان في سلام جنباً إلى جنب، والانسحاب من غزة سوف يكون خطوة في هذا الاتجاه بقدر ما سيمثله من إعادة "شحن" خريطة طريق على حد تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي، لكن بيع الوهم استمر، فلا مواقف محددة من الوضع النهائي الذي لا تتحدث عنه خريطة الطريق بدورها، وكافة المواقف المتواضعة للسياسة الأميركية من السياسة الإسرائيلية تمت في إطار الحديث مع المسؤولين الإسرائيليين وليس عن طريق مطالبتهم بشيء: تحدثنا معهم عن مزيد من حرية التنقل- مزيد من الحق في التعليم، غير أن اللغة تنقلب إلى النقيض عندما يصل الأمر إلى مطالبة الفلسطينيين ب"محاربة الإرهاب". لكن الهواجس تبقى معلقة: كيف تكون الطريق الأميركية لتطبيق هذه السياسة الجديدة؟ لقد كانت سياسة السعي من أجل الاستقرار ولو على حساب الديمقراطية تنفذ عن طريق دعم الحكومات الموالية ومساندتها بما في ذلك عن طريق القواعد العسكرية فترى كيف يكون الانتقال إلى الديمقراطية المرجوة؟ تطمئننا رايس بأن شيئاً لن يُفرض على أحد، وإنما الهدف هو مساعدة الآخرين على تحقيق حرياتهم، فكما للولايات المتحدة نظامها يمكن أن يكون لكل بلد نظامه، وكما أن التجربة الديمقراطية الأميركية اكتملت عبر العقود فإن أحداً لا يتوقع أن يحدث الانتقال إلى الإصلاح بين يوم وليلة، لكن هناك مؤشرات للديمقراطية لا يمكن أن تخطئها العين كحرية التعبير وحرية اختيار الحكام وحرية التجمع وتمكين المرأة..الخ، فأين بلدان الشرق الأوسط من هذا كله؟ من الطريف ودون أن تسبب هذه الكلمات إحراجاً لأحد أن رايس لم تتمكن من التخلص من إقامة علاقة ارتباطية كاملة بين نظم الحكم التي لا شك في صداقتها المخلصة للإدارة الأميركية وبين درجة تقدم "الإصلاح" فيها. أما النظم التي توجد علامات استفهام بشأن عدم اكتمال انصياعها للإدارة الأميركية فقد نالها الكثير من النقد المباشر وغير المباشر. ووصل هذا النقد ذروته في الحالة السورية التي يزداد الأمر طرافة عند الحديث عن مطالبة لبنان بالاستقلال عن "سادته الأجانب"، أي من "دولة سوريا البوليسية"، في مقابل الثناء المفرط على الديمقراطية العراقية التي لا تتم بطبيعة الحال في ظل وجود سادة أجانب أو ممارسات بوليسية. والسكوت تماماً عن نظم لا شك في حاجتها أكثر من غيرها للإصلاح لكنها اكتفت بإصلاح ذات البين مع الإدارة الأميركية فأعطيت الأمان. كان من الطبيعي أن تحظى مصر - باعتبارها الأرض التي استقبلت رايس ومنحتها الفرصة لبث أفكارها بشأن الإصلاح- بنصيب الأسد من ملاحظات رايس التي لم يفتها في البداية أن تشيد بسوابق الدور الإقليمي لمصر في مراحل التحول الحاسمة فاستشهدت بمحمد علي وما فعله وتجربة حزب الوفد الليبرالي في مصر والإصلاح الاقتصادي الذي قام به السادات وسلامه مع إسرائيل. وهكذا سقطت أو أسقطت أهم حلقات الدور المصري في قيادة الأمة العربية في مرحلة التحرر من الاستعمار الذي اعترفت رايس بأنه كان تهديداً للحرية التي انتصرت عليه. فات رايس كذلك أن تقول إن تجربة محمد علي في تحديث مصر قد ضُربت من الخارج، وأنه لا إصلاح السادات الاقتصادي ولا سلامه مع إسرائيل مثل نموذجاً احتذى به الوطن العربي، وإنما أدى الأمر في الحالتين وحتى الآن إلى سلسلة من الخطوات التي لم تفلح حتى الآن في شق الطريق إلى تنمية حقيقية في المنطقة أو تسوية متوازنة مع إسرائيل. في توصيف الحالة المصرية الراهنة افتت رايس بأن رئيسها مبارك قد فتح الباب للتغيير (تقصد من خلال التعديل الدستوري والانتخابات الرئاسية التعددية) لكنها لم تخف – وإن على نحو غير مباشر- عدم رضاها عن مجمل الأوضاع، فقد تضمنت محاضرتها إشارات مهذبة إلى كون أنصار الديمقراطية في غير مأمن من العنف وكذلك إلى حالة الطوارئ، وشددت على ضرورة وفاء الحكومة المصرية بوعدها بانتخابات حرة، وكذلك على ضرورة وفاء الانتخابات المصرية القادمة بالمعايير الموضوعية للانتخابات الحرة، وأن يكون للمعارضة الحق في حرية التجمع والمشاركة والحديث إلى وسائل الإعلام والتصويت دون عنف أو إكراه في ظل مراقبة وملاحظة دوليتين دون قيود. أنهت محاضرتها وحديثها عن مصر بالتبشير بحتمية انتصار الحرية والديمقراطية وأكدت على أن شعب مصر يجب أن يكون في طليعة هذه المسيرة العظيمة كما كان شأنه في خبرات ماضية، فهناك مستقبل مفعم بالأمل في انتظار الجميع و"الخيار خياركم، ولكنكم لستم وحدكم، فكل الأمم الحرة حلفاؤكم، فلنختر معاً الحرية والديمقراطية من أجل بلادنا وأطفالنا ومستقبلنا المشترك". كم كان المرء يتمنى أن يتبع هذا الدليل الذكي إلى الديمقراطية، غير أن نماذج الديمقراطية الأميركية في المنطقة تبدو حتى الآن أكثر بشاعة من نماذج الاستبداد العربي، أو لعلها من باب تحري المزيد من الموضوعية لا تختلف عنها في طبيعتها. أما سياسة "دع مئة زهرة تتفتح" التي تبشر بها رايس كما فعلت في محاضرتها بالجامعة الأميركية بالقاهرة فهي تبدو حتى الآن سياسة خاصة بتلك النظم والتي ما زالت تتمسك بخيط رفيع من الاستقلال عن الهيمنة الأميركية المطلقة، ولذلك فإن الأمل في ديمقراطية حقيقية –لا شك أن الوطن العربي يحتاجها أكثر من أي وقت مضى- يجب أن يؤسس على تصعيد النضال السلمي الشعبي المستقل عن أي إرادة خارجية من أجل الحرية والديمقراطية، وسوف يحسن الحكام العرب صنعاً إن هم تفاعلوا مع مطالب هذا النضال، فثمة فرصة تاريخية ولو لبعضهم في التوصل إلى تسوية تاريخية على الطريقة البريطانية تحفظ للنظم بقاءها، وتسلم للشعوب بحقوقها. أما رايس فقد يكون من الأصوب بالنسبة لها أن تتفرغ للبحث عن حلول للمعضلة الأميركية في العراق وأفغانستان وغيرهما، ولبناء جسور حقيقية مع شعوب المنطقة تستند إلى سياسة تعنى بمعايير العدل والإنصاف ولو جزئياً بما يقوض انعدام الثقة في صدقية السياسة الأميركية ويجعلنا جميعاً أكثر استعداداً لحضور محاضرات رايس والتأسي بنصائحها. ---- صحيفة الاتحاد الاماراتية في 28 -6 -2005