البنك المركزي المصري يبحث مع «التصدير والاستيراد» السعودي سبل تعزيز التجارة البينية    الحكومة تبحث التوسع في برامج الحماية التأمينية والصحية للعمالة غير المنتظمة    مجلس النواب الأمريكي يعتزم فرض عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية بسبب الموقف من إسرائيل    بعد قرار محكمة العدل الدولية بوقف العمليات العسكرية في رفح.. ما ردود الأفعال في إسرائيل؟    جوارديولا: كتابة التاريخ أمام يونايتد هو حافز إضافي    عاجل:جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 للشعبتين علمي وأدبي.. كل ما تريد معرفته    الترقب لعيد الأضحى المبارك: البحث عن الأيام المتبقية    هشام ماجد ينشر صورة من كواليس فيلمه الجديد إكس مراتي    بعد تلقيه الكيماوي.. محمد عبده يوجه رسالة لجمهوره    ضبط قضايا اتجار بالعملات الأجنبية بقيمة 11 مليون جنيه في 24 ساعة    فيلم رفعت عيني للسما يفوز بجائزة العين الذهبية بمهرجان كان    بري يؤكد تمسك لبنان بالقرار الأممي 1701 وحقه في الدفاع عن أرضه    مبابي يختتم مسيرته مع باريس سان جيرمان في نهائي كأس فرنسا    قرار عاجل من جوميز قبل مواجهة الاتحاد السكندري في الدوري    أبرز رسائل التهنئة بعيد الأضحى 2024    متي يحل علينا وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024؟    المفتي يرد على مزاعم عدم وجود شواهد أثرية تؤكد وجود الرسل    وزير الصحة يكلف هيثم الشنهاب بتسيير أعمال مديرية الصحة والسكان بجنوب سيناء    الأهلى يكشف حقيقة حضور إنفانتينو نهائى أفريقيا أمام الترجى بالقاهرة    التنمية الصناعية تبحث مطالب مستثمري العاشر من رمضان    مجلس الشيوخ يناقش أموال الوقف ونقص الأئمة والخطباء ومقيمي الشعائر.. الأحد    أبرزها قانون المنشآت الصحية.. تعرف على ما ناقشه «النواب» خلال أسبوع    مصرع وإصابة 3 أشخاص في الشرقية    أوقاف القليوبية تنظم قافلة دعوية كبرى وأخرى للواعظات بالخانكة    بوليتيكو: واشنطن تدرس القيام بدور بارز في غزة بعد الحرب    مراسل "القاهرة الإخبارية": تجدد الاشتباكات بين الاحتلال والمقاومة برفح الفلسطينية    التعليم العالي: جهود مكثفة لتقديم تدريبات عملية لطلاب الجامعات بالمراكز البحثية    عائشة بن أحمد تكشف سبب هروبها من الزواج    بفستان مستوحى من «شال المقاومة».. بيلا حديد تدعم القضية الفلسطينية في «كان» (صور)    محافظ أسيوط يتابع مستجدات ملف التصالح في مخالفات البناء    رئيس جامعة المنيا يشهد حفل ختام أنشطة كلية التربية الرياضية    قافلة الواعظات بالقليوبية: ديننا الحنيف قائم على التيسير ورفع الحرج    من صفات المتقين.. المفتي: الشريعة قائمة على الرحمة والسماحة (تفاصيل)    محمد صلاح يستعد لمعسكر المنتخب ب «حلق شعره»    مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: لا توجد مستشفيات تعمل فى شمال القطاع    فنلندا: روسيا ربما تختبرنا من خلال خطة ترسيم حدودها    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور H5N1 في الأبقار.. تحذيرات وتحديات    لمدة 4 ساعات.. قطع المياه عن منطقة هضبة الأهرام مساء اليوم    الشرطة الإسبانية تعلن جنسيات ضحايا حادث انهيار مبنى في مايوركا    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    أول جمعة بعد الإعدادية.. الحياة تدب في شواطئ عروس البحر المتوسط- صور    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    "العد التنازلي".. تاريخ عيد الاضحي 2024 في السعودية وموعد يوم عرفة 1445    وزارة الداخلية تواصل فعاليات مبادرة "كلنا واحد.. معك في كل مكان" وتوجه قافلة إنسانية وطبية بجنوب سيناء    في هذه الحالة احذر تناول البيض- خطر خفي على صحتك    الإسكان تتابع جهود قطاع المرافق لتعظيم الاستفادة من الحماة المنتجة من محطات معالجة الصرف الصحي    أبرزها التشكيك في الأديان.. «الأزهر العالمي للفلك» و«الثقافي القبطي» يناقشان مجموعة من القضايا    الأكاديمية العسكرية المصرية تنظم زيارة لطلبة الكلية البحرية لمستشفى أهل مصر لعلاج الحروق    الإسكان: تشغيل 50 كم من مشروع ازدواج طريق «سيوة / مطروح» بطول 300 كم    مران صباحي ل«سلة الأهلي» قبل مواجهة الفتح المغربي في بطولة ال«BAL»    رئيس الأركان يتفقد أحد الأنشطة التدريبية بالقوات البحرية    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على محاور القاهرة والجيزة    "التروسيكل وقع في المخر".. 9 مصابين إثر حادث بالصف    "صحة مطروح" تدفع بقافلة طبية مجانية لخدمة أهالي قريتي الظافر وأبو ميلاد    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    ألمانيا تعلن اعتقالها نتنياهو في هذه الحالة    البلتاجي: لا وجود لركلات الجزاء في مباراة الزمالك ومودرن فيوتشر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين مطرقة الفساد وسندان التدخل .. محمود عوض
نشر في المصريون يوم 18 - 06 - 2005

كما هي العادة أخيراً فإن أقصر الطرق لفهم أوضاعنا العربية هو بالذهاب إلى أميركا. هذه المرة لمتابعة شيء مختلف. انه الاجتماع السنوي لمنظمة الدول الأميركية الذي استضافته الولايات المتحدة. منظمة عمرها 57 عاماً وتضم 34 من دول أميركا اللاتينية، نشأت أصلاً برعاية أميركية في ذلك الزمن الذي كانت الولايات المتحدة تعطي لنفسها فيه الحق في النفوذ والهيمنة والسيطرة في منطقة تعتبرها فناءها الخلفي، وابتدعت من أجلها سابقاً «مذهب مونرو» الذي يمنع الدول الأوربية من التطفل على تلك المنطقة لأنه مساس بالأمن الأميركي. الدنيا تغيرت، والولايات المتحدة تعتبر أن جوهر هذا التغير هو أنها أصبحت القوة العظمى المنفردة عالمياً وموقتاً. بالتالي فكلمتها يجب أن تكون النافذة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً. والآن في ذلك الاجتماع السنوي لأربع وثلاثين من دول أميركا اللاتينية والولايات المتحدة، طرحت الأخيرة مشروعها بتشكيل لجنة تابعة للمنظمة تضطلع بمراقبة العملية الديموقراطية في دول القارة اللاتينية. الكلام ظاهره الرحمة لكن الدول المجتمعة رأت فيه العذاب، رأت فيه أولاً محاولة أميركية جديدة لفرض الوصاية على دول القارة تحت عنوان براق هو الديموقراطية. الدول المجتمعة قرأت أيضاً في ثنايا الطرح الأميركي استهدافاً لجمهورية فنزويلا التي تعتبرها الإدارة الأميركية شوكة في حلقومها، ليس لأن فنزويلا أضرّت مباشرة بالولايات المتحدة، فهي تصدر إليها معظم بترولها، ولكن لأن استمرار رئيسها الحالي هوغو شافيز في السلطة قد يغري دولاً أخرى بالتمرد على الوصاية الأميركية. الولايات المتحدة استخدمت من قبل معظم وسائل الحصار والقلاقل الداخلية والتحريض وتمويل المعارضة ضد فنزويلا وشافيز، ووصلت إلى درجة تمويل انقلاب ضده أعلنت بعده فوراً اعترافها بالنظام الجديد «الديموقراطي». لكن الشعب الفنزويلي أسقط الانقلاب وحرر الرئيس شافيز من الاعتقال وأعاده إلى السلطة خلال 48 ساعة بما جعل أميركا تبتلع موقفها الذي تسرعت بإعلانه رسمياً. وحينما جرت الانتخابات الأخيرة في فنزويلا فاز فيها شافيز وحزبه بجدارة لم تستطع أميركا التشكيك فيها وان احتفظت بالإصرار على التخلص منه بوسائل أخرى. آخر تلك الوسائل كانت الطرح الأميركي لتعبئة دول أميركا اللاتينية ضد فنزويلا، وتالياً ضد بعضها بعضاً. من جانبه اتهم الرئيس شافيز الولايات المتحدة بالسعي إلى فرض ديكتاتورية عالمية متهكماً بقوله: «هم يريدون الآن مراقبة الحكومة الفنزويلية من خلال منظمة الدول الأميركية؟ لا بد أنهم يمزحون، فإذا كانت هناك حكومة يتعين مراقبتها من جانب منظمة الدول الأميركية فهي الحكومة الأميركية». لكن الأكثر أهمية من رد فعل شافيز نفسه هو رد فعل الدول الأعضاء بمنظمة الدول الأميركية التي اجتمع ممثلوها باستضافة الولايات المتحدة. فعلى رغم حضور الرئيس جورج بوش الاجتماع وهمة وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس في الترويج للمشروع الأميركي بمراقبة التطور الديموقراطي سقط المشروع بجدارة. ليس فقط بسبب رعونة الإدارة الأميركية، ولكن أساساً بسبب التاريخ المروع لعلاقات الولايات المتحدة بتلك الدول في فنائها الخلفي حيث كان يكفي غضب شركة أميركية واحدة على نظام حاكم لكي يتم إسقاطه في ما عرف وقتها ب«جمهوريات الموز». وفي العقد الماضي استجابت بعض دول القارة الجنوبية لإلحاح وضغوط أميركا وصندوق النقد الدولي عن اقتصاد السوق وتحرير التجارة والخصخصة، بما في ذلك بيع المرافق العامة، فكانت النتيجة في حال الأرجنتين مثلاً هي الخراب الكامل الذي أعادها قرناً كاملاً إلى الوراء. هذا وغيره أدى بالشعوب إلى إسقاط أولئك السياسيين الفاسدين المنبطحين أمام أميركا وصندوق النقد الدولي، كما حدث في فنزويلا والأرجنتين والبرازيل ودول أخرى، سواء عبر صناديق الانتخاب أو الاحتجاجات الشعبية. وحين انعقد في الشهر الماضي في البرازيل اجتماع قمة عربية - أميركية طلبت الولايات المتحدة حضورها كمراقب فرفض المؤتمرون الطلب بينما اعتذر حكام عرب عن تمثيل بلادهم خشية إغضاب الولايات المتحدة. إن شيئاً من كل ذلك لا يعني أن دول أميركا اللاتينية تسعى إلى العداء مع أميركا أو تجاهل ثقلها الدولي. إنه يعنى فقط أن العلاقات الدولية إذا لم تقم على توازن في المصالح فإنها ستؤدي بالضرورة إلى هيمنة طرف على الآخر. والضحية في نهاية المطاف تصبح مصالح الشعوب الأضعف وسعيها إلى مستقبل أفضل. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن هذا يعيد أمامنا الطرح الأميركي القائم عن الشرق الأوسط الكبير أو الموسع. ويعني عملياً العالم العربي وإيران وتركيا... زائد إسرائيل. في العالم العربي تابعنا وزيرة خارجية أميركا - في سابقة غير مألوفة منذ احتلال بريطانيا العظمى مصر - وهي تطرح إملاءاتها على وزير خارجية مصر أمام الكاميرات في بعض من صميم الشؤون الداخلية المصرية فتعامل الوزير مع الموقف كما لو كان طبيعياً، كما أن الحكومة المصرية لم تفكر حتى في خطوة رمزية كتغيير السفير المصري المحترم في واشنطن. وأخيراً قالت كوندوليزا رايس إن «الجميع سيراقب الانتخابات الرئاسية التعددية المقبلة (في مصر). وكل شخص سيراقب للتأكد من أن الانتخابات ستكون حقيقية وتتسم بإصلاح فعلي وأن المعارضة سيكون لها منافذ للوصول إلى وسائل الإعلام». قبلها بأيام تحدث الرئيس جورج بوش في الاتجاه نفسه عن مصر رغم أن المناسبة كانت لقاءه رئيس جمهورية جنوب أفريقيا. وقبل هذا وذاك تابعنا السفير الأميركي في القاهرة وهو يعلن عن تقديم منح مالية أميركية لجمعيات مصرية محددة في القطاع الأهلي، في تعامل مباشر لم تكن الحكومة المصرية طرفاً فيه ولا محتجة عليه. الرسالة واضحة ومحددة وفهمها الناس على هذا الأساس. في لبنان تابعنا السفير الأميركي (وفي ظله السفير الفرنسي) في حال نشاط منهجية للتأثير في الانتخابات الجارية. تابعنا وفداً من الكونغرس الأميركي يذهب إلى بيروت للاجتماع بمرشحين دون غيرهم ولمتابعة ما قيل انه برامج أميركية في لبنان يتم تمويلها أميركياً تحت عنوان «المساعدة في بناء الديموقراطية». أما في حال سورية، فالموال معروف من بدايته لكنه - بعد التنبيهات الأميركية المتوالية - وصل إلى درجة الضغط الأميركي على أوروبا لمنع التوقيع على اتفاق جاهز للشراكة مع سورية. وأيضاً إلى توجيه تحذير إلى رئيس وزراء تركيا في زيارته الأخيرة لواشنطن من عدم تطابق السياسة التركية إزاء سورية مع السياسة الأميركية المستهدفة عزل سورية لأسباب أميركية بالعراق. الموال بالنسبة الى ايران معروف بدرجة أكبر من خلال تلفيق ملف نووي عسكري تنفيه إيران من الأساس، وتؤكده تقارير مفتشي وكالة الطاقة النووية، فضلاً عن أنه من قبل ومن بعد، فإن جيران إيران المباشرين، وبالتحديد دول مثل روسية هي الأقدر على تحري الخطر المزعوم، إن وجد أصلاً. أما الجديد حقاً فهو أن تعلن وزارة الخارجية الأميركية أن نتائج الانتخابات الرئاسية الوشيكة في إيران هي مزورة سلفاً طالما لن تسفر عن سياسات إيرانية موالية لأميركا. بكل بساطة وفي قلب الموضوع كان هاشمي رافسنجاني المرشح البارز في انتخابات إيران الوشيكة هو الذي قال إن موقفه هو السعي إلى علاقات طبيعية مع أميركا. فقط على أميركا أن تؤكد حسن نياتها بالإفراج مثلاً عن ثمانية بلايين دولار ودائع إيرانية منذ أيام الشاه الراحل، صادرتها أميركا منذ ربع قرن عقاباً للشعب الإيراني - مالك الودائع - على أنه رفض نظام الشاه العميل لأميركا وإسرائيل. (بالمناسبة: تلك قصة إخبارية لم يتطلع أي إعلام فضائي مهني حقيقي إلى الإشارة إليها مطلقاً). في السياق نفسه، تابعنا السفير الأميركي في الكويت وهو يلقي بمحاضرة علنية ينتقد فيها السياسة الإيرانية في المنطقة ويحرض فيها دول الخليج ضد إيران. ربما في هذه الحال فقط وجدنا رد فعل فورياً من رئيس مجلس الأمة (البرلمان) الكويتي الذي اتهم السفير بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلاده. لكن هذا الاستثناء الكويتي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. قاعدة تعمل بها أخيراً معظم دولنا العربية. قاعدة التكيف مع الإملاءات الأميركية أو التخفيف من وقعها على الرأي العام. بعض حكوماتنا الرشيدة تقول في السطر الأول إنها ترفض الطلب الأميركي بوجود مراقبين أجانب على الانتخابات الرئيسية. جميل. إنما في السطر الأخير تقول إنها لا تمانع إذا كانت صفتهم المعلنة هي أنهم ملاحظين. الحكومات نفسها بادرت في الأشهر الأخيرة بالإعلان عن بيع عشوائي سريع بأسعار سياسية (الكلام موجه للإدارة الأميركية) لركائز أساسية في الاقتصاد الوطني وللشركات الأجنبية التي يحددها صندوق النقد الدولي أو حتى موظف في السفارة الأميركية. الحجة المعلنة هي فعل الخير: تشجيع قدوم الاستثمارات الأميركية والتكنولوجيا والذي منه. ربما. إنما بعد ثلاثين عاماً وحكوماتنا تكرر نفس الموال، لا جاءت استثمارات ولا تكنولوجيا. كل ما اهتمت أميركا بالاستثمار فيه، لمصالح تعنيها وحسابات خاصة بها، هو فقط قطاع البترول. بالطبع كانت هناك معونة اقتصادية أميركية معلنة منذ سنوات أنور السادات. لكن أحدا لم يدقق مطلقاً في مضمون تلك «المعونات». ثلثاها أولا هي لخبراء أميركيين وشركات أميركية. الثلث الأخير هو لاختراق العمق المصري، من التعليم إلى الصحة إلى القضاء إلى إلزام الحكومة المصرية بشراء نسخ أكثر من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الأميركية وعرضها في التلفزيون المحلي إلى احتجاز جزء منها تسديداً لما اعتبرته الحكومة الأميركية بقرارها المنفرد وفاء بحقوق الملكية الفكرية. وحتى ندرك ما وراء هذا الشعار الأخير البريء فإن ما جرى أخيراً هو منع شركات صناعة الأدوية المصرية من صناعة أدوية كانت تنتجها منذ خمسين عاماً باتفاقات قانونية مسجلة وأصبحت الآن ممنوعة منها لأن الشراء يجب أن يتم من الشركات الأميركية بالأسعار الفلكية التي تحددها هذه الأخيرة. هي إذن تجارة وشطارة تنتهي إليها السياسة أو تبدأ بها. وفي قطاعات مختارة من التعليم إلى الصحة ومن الجمارك إلى الضرائب ومن شركات أجنبية لإدارة مطارات إلى شركات أجنبية أيضا لجمع القمامة تتحول الأرباح إلى الخارج أولاً بأول باتفاقات مع الحكومة لم تخضع في أي مرة إلى نقاش علني جاد وحقيقي. وحينما كتبت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة أخيراً مقالاً في «واشنطن بوست» دعت إلى عدم استثناء الأحزاب الإسلامية من العملية السياسية وإلى أن تقوم الإدارة الأميركية بالتشديد على تمثيل الأقليات في الحكومات (العربية) وإيلاء هذا التمثيل اهتماماً واضحاً. أما الوجه الآخر لهذا كله فهو مشروع القانون الذي أعدته لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي وينص على امتناع الولايات المتحدة عن تمويل الأمم المتحدة في حال عدم توقف الجمعية العامة عن اتخاذ قرارات أحادية ضد إسرائيل. الأمم المتحدة لم تبادر إسرائيل بالعداء وإنما إسرائيل هي التي بادرت باحتلال أراضٍ عربية ولا تزال تحتلها للسنة الثامنة والثلاثين. وعلى أي حال فإسرائيل قصة أخرى وإنما الذي يعنينا منها هنا هو أن الخلل الأكبر الذي جرى في العلاقة المصرية الأميركية مثلاً بدأ يوم التزم أنور السادات بربط علاقة مصر الأميركية بالعلاقة مع إسرائيل. وحتى حين أذعنت الحكومة المصرية أخيراً لتوقيع اتفاق تلتزم فيه بوجود مكونات إسرائيلية في الصادرات المصرية إلى السوق الأميركية (الكويز) بررتها الحكومة المصرية بأنها خطوة ضرورية للتوصل إلى اتفاق للتجارة الحرة مع أميركا. هذا عذر أقبح من ذنب وفى النهاية لن تتم اتفاقية الحرة هذه إلا بالشروط نفسها التي تصر عليها أميركا طوال سنوات: تصفية ما تبقى من قدرة اقتصادية ليصبح الاقتصاد المصري مكتمل التبعية أميركيا. ما الذي أوصل أميركا إلى هذه القدرة من الإملاء، وأوصل حكوماتنا إلى هذا المستوى من الإذعان؟ إذا كانت الحجة هي سطوة أميركا عالميا ففي العالم حالات عدة للدفاع عن المصالح الوطنية بما في ذلك دول أميركا اللاتينية. أما إذا كانت الحجة هي احتياج حكوماتنا إلى استرضاء أميركا فهي حجة كاشفة عن أس البلاء. انه الفساد. الفساد. الفساد. نظم حاكمة عدة في خريطتنا تحولت إلى نظم مغلقة على نفسها وتعمل بمنطق من ليس معنا فهو عدونا. و«من معنا» هذا يتاح له سرقة البلايين من أموال البنوك ووضع اليد
على إقطاعيات صحافية وإعلامية خارج المحاسبة، بل خارج القانون، وتصور أن استرضاء أميركا بالمزيد والمزيد من التنازلات سيجعلها أكثر استعدادا لمسايرة الأمر الواقع. وبدلاً من أن تتعظ حكوماتنا بما يجري حولها وفى العالم فتتحصن بشعوبها وتمارس إصلاحاً جاداً وجذرياً، فإنها ترهن مستقبل شعوبنا لدى الراعي الأميركي أكثر وأكثر. إنها مرحلة من الغليان أصبحنا نعيشها بين مطرقة حكوماتنا وسندان التدخلات الأميركية. واللافت هنا أن الفساد في الداخل والتدخلات من الخارج أصبح كل منهما يتغذى بالآخر ويتشجع به ويعتمد عليه. --------- صحيفة الحياة اللندنية في 18 -6 -2005

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.