كيف أصبح اساتذة الجامعة والصحفيون موظفين مطيعين واهانوا أنفسهم واهدروا المهن الوطنية التى انتموا إليها؟ شهادة واقعية بحكم اننى انتمى الى مهنتين لهما خصوصية ودور رائد فى تشكيل العقل وهى الصحافة والتعليم والبحث العلمى بالجامعة. لقد عشت حقبة الستينيات حيث استهللت حياتى المهنية فى الصحافة وكانت صحيفة الأهرام هى موقعى الأول عشت هذه الفترة وكنا فى اوائل الدفعات الجامعية التى تخرجت فى قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة وكنا نتحسس طريقنا المهنى بصعوبة شديدة وسط أجيال لم تكن تؤمن بأن الصحافة علم بل هى موهبة يمكن صقلها بالخبرة والممارسة ولكن والحق يقال استقبلتنا هذه الأجيال بالترحاب الحذر ولكنهم أفسحوا لنا مكانا وتعلمنا منهم.. وتعلموا ايضا منا تعلمنا منهم أهم القيم المهنية التى تتمثل فى كرامة المهنة ومسئولية الصحفيين فى صيانة هذه الكرامة وتعلمنا منهم ان القلم امانة ومسئولية وسلطة وعلينا ان نحمى هذه الامانة من كافة الضغوط والاغراءات بالحفاظ على سر المهنة ومصادرها وعدم افشاء اسماء المصادر وعدم الخضوع لاغراءات هذه المصادر أو ضغوطها وتعلمنا منهم ان سلطة القلم تنهار عندما تخضع صاحبها لاغراءات المعلنين او ضغوط الحكومة واجهزتها الامنية تعلمنا كل يوم دروسا جديدة فى كيفية الانتماء لهذه المهنة العظيمة وسجلت صفحات مجيدة فى ملحمة النضال المصرى من أجل الحرية فكانت دوما المنبر والسند الجسور للثورات الوطنية عرابي/ ثورة 19 بانتفاضة 1946 والكفاح المسلح ضد الاحتلال 1951 والمدافع الشجاع عن الديمقراطية فى مواجهة حكومات اليد الحديدية من خدام الاحتلال للملكية مثل اسماعيل صدقى وأحمد محمود. لقد سجلت لنا الصحافة تراثا مجيدا فى معنى المهنة ومسئولياتها تجاه الوطن والناس أرساه الرواد العظام من الصحفيين وحملته لنا الاجيال وغرسته فى ضمائرنا وفى ممارساتنا المهنية لكن جاء زمن غير الموازين وأصبح الصحفيون موظفين صغارا ومندوبين للمصادر فى الصحف بدلا من ان يكونوا صوت الجماهير وحراس المهنة والمدافعين عن مواثيق شرفها فأصبحنا نرى عجبا صحفيين يعملون خدما لدى رجال الاعمال والمستثمرين واجهزة الأمن فنقرأ الأخبار والمقالات تفوح منها رائحة النفط احيانا وتطل من بين سطورها خوذات الامن المركزى فى أغلب الاحيان صورة العم سام واطياف الموساد ولا عزاء للصحافة او الصحفيين وعندما استغل السادة المهنة التى اشرف بالانتماء اليها منذ ثلاثة وثلاثين عاما تخرج فيها على مدى ما يقرب من بضعة آلاف من دارسى الاعلام والصحافة انخرط عدد كبير منهم فى مسارات المهنة الاعلامية المطبوعة والمرئية والمسموعة المصرية والعربية وبقى العدد الاكبر يعانون البطالة ولن اطيل فى سرد فصول المأساة التى تعيشها الجامعات المصرية والتى عايشت فصولها كاملة فى جامعة القاهرة وبدءا من العلاقة الحميمة بأجهزة الامن التى حاصرتنى فى المدرج من خلال عملائها من صغار الطامعين والفقراء من الطلاب الذين استثمرت الاجهزة الامنية ظروفهم القاسية وجندتهم لكتابة التقارير ضد اساتذتهم وكنت احرص على مساواتهم بزملائهم من حيث التفانى فى رعايتهم وتوجيههم رغم علمى انهم يرصدون كل خطواتى داخل الكلية ومعرفة اسماء ضيوفى وتسجيل مواقفى ومحاضراتى والتى واجهنى بها المدعى الاشتراكى فى تحقيقاته معنا خلال احداث سبتمبر 1981 وقد كانت صدمتى اكبر مما أحتمل لقد اخترقوا المدرجات وافسدوا عقول ونفوس الشباب وحولوهم الى هياكل بشرية بعد ان فصلوا العلاقة بينهم وبين قضايا الوطن والمجتمع وحولوا طاقاتهم الى مسارات اجرامية وضد زملائهم واساتذتهم وضد انفسهم وسلحوهم بالجنازير والمطاوى بديلا للوعى والانتماء والمشاركة والالتزام والسعى الجاد لتغيير واقعهم المحزن وأصبحت الآن اراهم جالسين تحت الاشجار ومبعثرين تائهين فى طرقات الجامعة يحضنون الاسى والضياع بعد ان أصبح محظورا عليهم ممارسة اى نشاط يقودهم الى الوعى فأصبحت الجوالة وفرق الترفيه الرخيص والرحلات هى الملاذ الوحيد المتاح لهم وغابت شموس الحركة الطلابية التى هزت اركان الوطن منذ مظاهرات 1935 وانتفاضة 1946 ومظاهرات 1968 واحداث 1972 فقد أصبح ممنوعا ممارسة النشاط الطلابى إلا برعاية الأمن وطبقا لتعليماته الخفية والمعلنة والتى ينفذها بكل خضوع وطاعة الاساتذة المطيعون من القيادات التى أصدرت تراثا خاليا من القيم والتقاليد الجامعية ارساه رواد الفكر والعلم فى الجامعة المصرية العريقة منذ عام 1908 وهنا لا عزاء للحركة الطلابية فى جامعاتنا المصرية طالما هناك دبابات خضراء وخوذات سوداء وجنود صغار مسلحون بالسونكى الموجه الى وجوه ورقاب الطلاب والطالبات. وطالما هناك مكاتب للأمن تتغلغل فى نسيج الحياة اليومية للطلاب والاساتذة فى قاعات الدرس ومكاتب العمداء والمكتبات والاسانسيرات والكافيتريات وخلف الابواب والنوافذ والردهات والسلالم والممرات وطالما هناك اساتذة متواطئون مع الامن يعشش داخلهم طبقات من الخوف والجبن المتراكم ولا ادرى الخوف على ماذا؟ هل يستطيع الامن ان يحرم عضو هيئة التدريس من حقوقه المهنية والوطنية وهناك قانون للجامعات وضع خصيصا لحماية حقوق الجامعيين والزامهم بالمسئوليات والاخلاقيات الجامعية. لقد عشش الخوف داخل اساتذة الجامعة يوم أهدر قانون الجامعة واخترقت السلطة التنفيذية بأجهزتها الامنية والحزبية حرم الجامعة وداست باقدامها وخوذاتها التراث المقدس من الحريات الأكاديمية والحقوق المهنية والكرامة الانسانية للاساتذة والطلاب ولن يحرر الجامعة من تركة التخريب المنظم والدمار الذى لحق بكيانها البشرى أساتذة وطلابا طيلة نفوذها لن يقوم بذلك الا الجامعيون ومن داخلها عليهم ان يتكبدوا فورا فى تنشيط الذاكرة الجامعية بحقوقهم ومسئولياتهم تجاه مهنتهم المقدسة وضرورة تطهيرها من الشوائب العديدة التى علقت بها والتى تتمثل فى الاسلوب التلقينى والمذكرات العملية والامتحانات العقيمة والعلم على الزام القيادات الجامعية بتنفيذ نصوص قانون الجامعات الخاصة بتحديد مسئوليات الامن وحصرها فى حراسة المنشآت والزام القيادات الجامعية بتشكيل حرس جامعى تابع للجامعة وليس تابعا لوزارة الداخلية. والاصرار على انتخابات القيادات الجامعية أسوة بجميع المؤسسات الأكاديمية والجامعية التى تحظى بالاحترام فى العالم. ضرورة انشاء جهاز منتخب من الاساتذة لمتابعة الاداء المالى والادارى للقيادات الجامعية وهذا لن يتحقق إلا من خلال تحويل نوادى اعضاء هيئة التدريس الى فروع لنقابة عامة تضم اساتذة الجامعات تكون درعا ومرفأ وسندا ومدافعا عن حقوق الجامعة واساتذتها. ---- صحيفة العربي المصرية المعارضة في 3 - 7 -2005