لا شك أن أثمن وأغلى ما أنتجته الثورة المصرية هى الديمقراطية التى غابت لعقود عن هذه الأمة. فهل يا ترى نحن حقا مستعدون لهذه الديمقراطية؟ أم أن عمر سليمان كان محقًا عندما قال إن الشعب المصرى غير مستعد للديمقراطية. لا أعتقد أن الرجل كان يقصد الشعب المصر ولكن أستطيع أن أؤكد الآن أنه كان يعنى النخبة المصرية. لا عجب أن يبدو الشعب المصرى متخبطاً بعض الشىء فى ممارساته الديمقراطية عقب ثورته المجيدة فهو شعب يحبو خطواته الأولى نحو الحرية الحقيقية بعد أمد طويل من القهر والظلم واحتكار السلطة. ولكن ما لا يمكن تقبُله أبدًا هذه النخبة المتشدقة بالديمقراطية والتى كانت تتغنى بها ليل نهار ومع ذلك فهى من الواضح أنها كانت تعنى ديمقراطية أخرى غير التى نعرفها جميعًا. ديمقراطية تأخذ منها ما يخدم مصالحها وتترك منها ما يتعارض مع هذه المصالح. يبدو أن النخبة ليس لديها قاعدة ديمقراطية حقيقية تقف عليها أو تستند إليها. وأعنى هنا بالنخبة طرفى الصراع سواء النخبة الحاكمة أو النخبة فى صفوف المعارضة. ولكن إذا كانت السلطة الحاكمة قد ارتكبت أخطاء فإن المعارضة ارتكبت كوارث تنسف قاعدة الديمقراطية من أساسها وتقوض البناء من داخله. هل تعنى الديمقراطية أن يخرج المعترضون على رئيس جاء بانتخابات نزيهة بشهادة الجميع ليجبروه على اتخاذ قرار بعينه، وإلا لجأوا للعنف؟ ومع ذلك لم نرَ من المعارضة النخبوية أى رد فعل يضبط إيقاع مناصريهم أو يصحح مسار الاعتراض الذى كاد أن يفتك بالبلاد بحجة حرية التعبير وحرية الرأى. أم هل من الديمقراطية أن يرفض المعارضون مشروع الدستور مع أنه تم استفتاء الشعب عليه ووافق عليه الشعب ومع ذلك يتعهدون بإسقاطه لأنه على حد زعمهم باطل. أى ممارسة ديمقراطية تلك؟ وأى منطق هذا الذى يكرس لمبدأ الديكتاتورية ولا علاقة له من قريب أو بعيد بشىء اسمه الديمقراطية؟ رغم أننا ما زلنا نتغنى بحضارتنا وتراثنا ورغم مكانة مصر التى تؤهلها أن تحتل مكانة متقدمة فى الديمقراطية إلا أنها بدت متعثرة جدًا بفضل نخبة لا تؤمن إلا بالديمقراطية التى تأتى بها إلى سدة الحكم وما سواها باطل وفاسد ويجب إسقاطه حتى لو تم الانقلاب على الشرعية وعلى أسس الديمقراطية ذاتها. أعتقد أن النخبة لديها قصر نظر فى هذه النقطة ولا ترى أبعد من قدميها هذا إن كانت ترى بالأساس غير مصالحها. إذ كيف يمكن لعاقل أن يؤمن بمبدأ الديمقراطية ويحترم خيارات الشعب أن يدعم مبدأ الانقلاب على إرادة الشعب مهما كانت الذرائع. وكيف تُتَخذ الحرية أداة للسب والقذف بدعاوى باطلة ومنحرفة ومُسيسة. ومع ذلك هم أول من يعرف أن هذه الممارسات الشاذة التى تْطال الأشخاص والحياة الشخصية وتفتقر إلى أدنى درجات المنطق ومليئة بالمغالطات وتعتمد بصورة أساسية على الشائعات هى من تقوض الحرية ذاتها وتهدم دعائم أى ديمقراطية وليدة. هل يقبل هؤلاء لو كانوا هم فى سدة الحكم أن ينقلب عليهم الآخرون كما يفعلون الآن٬ وهل يقبل هؤلاء نفس المبررات التى يسوقونها هم اليوم كمسوغ للانقلاب على الديمقراطية. وهل يأمن هؤلاء إن وصلوا إلى بغيتهم بتقويض الحكم الوليد ألا يخرج عليهم من سوف يقوض حكمهم بدعاوى أخرى٬ ونستمر فى حلقة مفرغة من اللاديمقراطية والديمقراطية المضادة. ببساطة إذا قبلت الديمقراطية يجب أن تقبلها كلها وبكل قواعدها، فمعنى الرئيس فاز بنسبة 50٪ +1 فهو الرئيس الشرعى وليست سبة فى جبينه وليست عيبًا يتوارى منه الفائز خجلاً. وعلى الكل أن ينطوى تحت هذه الرئاسة وهذه هى الديمقراطية. إن أخطر ما يمكن أن تنتجه هذه الممارسات غير الديمقراطية هى اللاديمقراطية المضادة. إن هذه الديمقراطية تشبه قانون سكسونيا والذى كان هدفه إحقاق العدل بين الجميع لتتميز ولاية سكسونيا الألمانية عن بقية الولايات وكان ينص على أنه إذا ارتكب الفقير جريمة يقف أمام الجميع عند اكتمال الشمس وتُنفذ علية العقوبة، وإذا ارتكب الغنى جريمة يقف أيضاً أمام الجميع عند اكتمال الشمس ثم يعاقب ظل الغنى! متوهمين أن ذلك هو منتهى العدل. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]