في نفس الوقت الذي ظهرت فيه أطروحة صمويل هنتنجتون الشهيرة عن صراع الحضارات ، كان الصرب يجمعون مسلمي البوسنه في معسكرات الموت والاغتصاب الجماعي بتواطؤ مباشر من أوربا وغير مباشر من أميركا. واليوم تعود البوسنه بكثافة في صحف ومحطات التلفزة الأوربية والأمريكية إحتفالا بالذكرى العاشرة لمجزرة سربرنيتسا ، المدينة الواقعة في شرق البوسنه ، والتي كان يقطنها مسلمون قبل أن تجتاحها القوات الصربية لتقتل ثمانية آلاف من رجالها وشبابها في يوليو 1995. لقد عاصرت أثناء عملي بجامعة أكسفورد مأساة البوسنه منذ بدايتها في إبريل 1992 وحتى نهايتها بإتفاقية دايتون في ديسمبر 1995. ولدي مادة كبيرة عما جرى للمسلمين هناك وعن الدور القذر الذي لعبته بريطانيا وأميركا في هذه المأساة ، وهو ماأرجو أن تتاح لي الفرصة مستقبلا للكتابة عنه بالتفصيل . وقد عنونت مقالي بذكرى البوسنه وليس سربرنيتسا لأن التركيز على سربرنيتسا من جانب الإعلام الغربي يعطي صورة مشوهة تغطي عما جرى خلال ثلاث سنوات وصولا إلى سربرنيتسا التي يزعم مسؤولو الغرب أنهم فوجئوا بها. والواقع أن المجازر الصربية لم تتوقف خلال السنوات الثلاث : عشرات ومئات وعشرات ومئات وهكذا. وكان المؤكد أن الصرب عندما يحاصرون قرية أو بلدة ، فإن هدفهم يكون إبادة أهلها أو على الأقل تطهيرها من مسلميها. وربما يكون قادة الغرب توقعوا أن أقصى ما سيقوم به الصرب في سربرنيتسا هو تطهيرها والاستحواذ عليها ، وأن المفاجأة كانت ليس فقط في المجزرة وإنما في حجمها الذي أحرج القوى المتواطئة . فقد كانت بحق أكبر مجازر حرب البوسنه. بدأ التواطؤ الغربي مع الصرب بقرار مجلس الأمن بحظر السلاح على جميع الأطراف المتنازعة. واتخذ هذا القرار مع العلم بأن الصرب لديهم صناعة سلاح متقدمة نسبيا ولديهم من الدبابات والمدفعية والصواريخ والأسلحة الأخرى ما يغنيهم عن أي سلاح من الخارج ، وخاصة بعد أن أمن لهم الغرب مواجهة عدو أعزل. وعندما إشتدت الفظائع ضد المسلمين العزل ، ولتبرير إصرارها على حظر السلاح عن المسلمين ، أصدرت قوى الغرب قرارا بإرسال قوات حماية دولية. وبالطبع كان المفهوم أن هذه القوات ستذهب لحماية المدنيين ، ثم تبين أنها هناك لحماية أنفسها . وفي كل مرة كان الصرب يمنعون قوافل الغذاء والدواء من الوصول إلى سكان بلدة أو مدينة محاصرة ، كان أقصى ما يفعله قادة هذه القوات هو المفاوضة ، وتستمر المفاوضات حتى يبدأ السكان في الموت جوعا أو عطشا أو مرضا. وبعد أن إتضح للعالم العجز المشين لقوات الحماية ، قام الغرب بخطوة أخرى للمناورة توفر للصرب مزيد من الوقت لاستكمال مخطط الإبادة. وكانت الخطوة الأخيرة هي إعلان عدد من مناطق المسلمين "مناطق آمنة" ، قبل أن يعمد الصرب للاستهزاء بالقرار بتعمد جعل هذه المناطق أقلها أمنا. هناك عدد من الأكاذيب التي يطلقها إعلام الغرب ويرددها وراءه إعلام العرب ، ومنها أن القوة الهولندية التي كان منوطا بها حماية سكان سربرنيتسا هي المسؤولة عن المجزرة . والواقع أن الكتيبة الهولندية كانت قليلة العدة والعتاد ولم يكن في إستطاعتها أن تفعل أي شئ ضد قوة صربية مجهزة بالسلاح الثقيل . وقد تعمد قادة الغرب أن يكون سلاح القوات الدولية خفيفا حتى تحجم هذه القوات عن الاشتباك مع الصرب. ومن أشهر الأكاذيب الأخرى التي ترددها أقلام الجهل في الصحافة العربية ، هو أن أميركا تدخلت في هذه الحرب لصالح المسلمين . ومن أبرز أقلام الجهل التي رددت هذه الأكذوبة قلم د. عبد المنعم سعيد مدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية. والواقع أن أميركا منذ البداية كانت شريكا في التواطؤ مع الصرب ، وأنها تركت المسلمين يعانون لثلاث سنوات حتى أوصلتهم إلى درجة من الانهاك ضمنت لها أنهم لن يجرؤوا على معارضة خطتها لتقسيم البوسنه. عندئذ ، تدخلت أميركا لإنهاء الحرب . هناك تفاصيل كثيرة في هذه المسألة لا يتسع لها المجال . وإنما ينبغي التنبيه إلى أن الدور الذي لعبته أميركا لمساعدة أوربا على التغطية على جرائم الصرب ومنع قيام دولة ذات أغلبية مسلمة في قلب أوربا ، تقوم به أوربا الآن لمساعدة أميركا في التغطية على جرائم إسرائيل ومنع قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة في قلب العالم العربي . هما قوتان يتبادلان الأدوار علينا ، معتمدين في ذلك على مساعدة الحمقى في حكوماتنا والجهلة في إعلامنا .