لم أشعر بأن الرأي العام العربي اهتم كثيراً بالانقلاب العسكري الذي جرى في موريتانيا وأطاح بنظام سيد أحمد ولد الطايع. ربما لأن الأسبوع الذي حدث فيه الانقلاب ازدحم بالتطورات الدولية والإقليمية وأكثرها كان كئيباً فجذب الاهتمام أو شتته. وسمعت من علق فقال إن موريتانيا بعيدة جغرافياً عن قلب الأحداث العظمى في الشرق الأوسط. ولم أرتح لهذا الرأي، فموريتانيا لم تكن سياسياً بعيدة، بل استطاعت، رغم صغر الحجم وقلة الموارد وشظف العيش وقسوة الظروف، أن تنفذ أكثر من مرة إلى هذا القلب، قلب الأحداث في المنطقة، كانت البداية حين قرر زعماؤها الاستقلال بأراضيهم ورفض دعاوى المملكة المغربية لضمها، ودخلوا وقتها في صراع نجحوا في أن يجروا إليه عدداً من دول المشرق والخليج، حتى إن جامعة الدول العربية انشغلت لفترة بقضيتهم. ثم دخلوا بعد الاستقلال في نزاعات مع الجيران وشعب الصحراء الغربية على ملكية إقليم الصحراء ولعبت دول أوروبية دوراً في حث موريتانيا على الاكتفاء بالمساحات الهائلة من الصحراء التي في حوزتها وعدم التطلع إلى صحراوات الآخرين. وكان الرئيس المخلوع نموذجاً لنوع من حكام العالم النامي الذين يجيدون اللعب بالسياسة الإقليمية، وأحياناً الدولية، إما لتشتيت انتباه شعوبهم بعيداً عن مشكلاتها اليومية واستبداد الحكم، أو لفتح أبواب رزق جديدة. تأسيساً على ذلك، وحسب هذا النموذج، كانت موريتانيا من الدول العربية القليلة ومنها اليمن، التي وقفت إلى جانب حكومة الرئيس السابق صدام حسين، ضد إرادة الولاياتالمتحدة وعدد مهم من الدول العربية ذات النفوذ والموارد المالية الوفيرة. وبعد سنوات، قام الرئيس نفسه الذي كان وثيق الصلة بصدام حسين، بإقامة علاقات مع “إسرائيل”، وتعمد أن يطبق هذه السياسة في صيغة تحد معلن وصريح، وهو الأمر الذي أثار وقتها تساؤلات كثيرة، فقد بدا كما لو كان يريد استفزاز أطراف معينة في العالم العربي الإسلامي أو داخل موريتانيا، أو أراد لفت أنظار أطراف غربية، وبخاصة يهود أمريكا وأوروبا ليحصل على ثمن مناسب. قيل في تفسير هذه الشجاعة، أو التقلب، في صنع سياسة دولة مثل موريتانيا، إن الفقر مع صعوبة التمويل الذاتي لاستخراج معادن أو نفط أو تطوير الزراعة، يفرض على رئيس الدولة اتخاذ سياسات خارجة عن الاعتيادي، وقيل إن مساحة موريتانيا الشاسعة جعلت حكوماتها تعيش في خوف دائم بسبب صعوبة السيطرة على حدودها الطويلة، فلموريتانيا حدود مع الجزائر بطول 463 ك.م، ومع مالي بطول 2237 ك.م ومع السنغال بطول 813 ك.م ومع الصحراء الغربية بطول 1561 ك.م، وتطل على المحيط بساحل طوله 754 ك.م، حماية هذه الحدود وحدها تحتاج إلى جيوش جرارة وإمكانات أمن هائلة، ناهيك عن توفير الأمن لشعب جزء كبير منه دائم التنقل، وجزء آخر مازال اهتمامه الأكبر بخلافات عرقية. لم يعرف ولد الطايع أن رهاناته على الخارج، أي “إسرائيل” وأمريكا ودولة أو أكثر من جيرانه، ستكون خاسرة إذا ترك غضب الناس، وبخاصة النخب السياسية والمثقفة، يتراكم. وقد تراكمت بالفعل ثلاثة أنواع على الأقل من الغضب حتى وصلت إلى ذروة كان لابد أن تنفجر. تراكم الغضب على السياسة تجاه “إسرائيل”، وكان يتغذى على غضب شعوب عربية أخرى لم تفلح النخب الحاكمة العربية في استدراجها إلى الطريق الذي اختارته راضية أو مجبرة. وأعتقد أن هذا الغضب باق، بل وصار البؤرة التي يتجمع حولها كل أنواع الغضب العربي. من ناحية أخرى يحتمل أن تكون العلاقة العسكرية مع الولاياتالمتحدة سبباً في تدهور شعبية الرئيس داخل قواته المسلحة، وبخاصة بعد أن صدرت لها الأوامر بأن تذهب الى الحدود مع مالي للتدريب على حروب الإرهاب في مناورة مشتركة مع جيش الجزائر ومالي والولاياتالمتحدة. وأتصور أن ولد الطايع مثل كثيرين من حكام العالم النامي لا يدركون أن الجيوش النظامية ليست مقتنعة بوظيفتها الجديدة أي مطاردة أفراد وهي المؤهلة والمدربة لحماية حدود الدولة وأمنها الخارجي. أما النوع الثالث من الغضب، فأتصور أنه المتعلق برياح الإصلاح السياسي التي تهب على المنطقة بأسرها. فقد أصر الرئيس المخلوع على أن يدخل انتخابات الرئاسة عام 2003 رغم أنه في سدة الحكم منذ حوالي عشرين عاماً، ورغم أن قطاعات مهمة أرادت التغيير، وأعربت عن عدم رضاها عن التعددية الزائفة والديمقراطية المنقوصة التي كان يزعم ولد الطايع أنه صاحبها، وكانت الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تؤيده، ولم تكن لتفعل ذلك إلا لأن النظام الموريتاني تعهد باحتضان “إسرائيل”. كان اجتماع كل هذا الغضب حافزاً كافياً لانفجار الوضع، ولكني أعترف أنني أحد الذين فوجئوا بدور الجيش فيه. فقد أثارت انتباهي على امتداد السنوات الأخيرة حقيقة أن المؤسسة العسكرية لم تتدخل في أي محاولة للإصلاح أو التغيير السياسي في دول أوروبا الشرقية ووسط آسيا والدول العربية. وذهب الظن بي إلى مداه فكتبت في أكثر من موقع أشير إلى احتمال أن يكون العسكر قد وصلوا إلى نهاية دورهم السياسي في حياة مجتمعاتنا، وأن تكون اهتمامات جديدة ليس بينها الاهتمام السياسي قد استحوذت على تفكيرهم. واليوم وبعد انقلاب نواكشوط أسأل مجدداً إن كنت قد تسرعت في قراءة آليات وحركة الإصلاح والتغيير في العالم العربي، أم أن انقلاب موريتانيا استثناء لن يتكرر، أم أن قوى خارجية ستحاصره ثم تعزله ثم تقضي عليه. --- صحيفة الخليج الاماراتية في 11 - 8 -2005