يقف التاريخ حكماً بين الأمم.. يقضي بينها بالقسط، فلا يجامل ولا يحابي ولا يميل ولا يداهن، إنه يسرد الحقائق ويكشف الدقائق، ويبين الأسرار، ثم يدع الأحداث جلية واضحة لا خفاء فيها ولا غموض، فيأتي حكمه مصيباً لعين الحقيقة. وهذه الأيام ونحن نحتفل بذكرى عاشوراء يكشف لنا التاريخ حقيقة أمة وأمة، ثم يحكم بينهما بالقسط. ففي يوم عاشوراء، نجى الله موسى من فرعون وقومه في معجزة خلدها التاريخ وكانت نقطة تحول في إيمان بني إسرائيل، غير أن إيمانهم لم يرتق بهم إلى عنان السماء ونسوا مع الزمان أنهم رأوا البحر منفلقاً كل فرق كالطود العظيم، ورأوا هلاك الطاغوت الأكبر بغير سبب من أسباب الدنيا إلا أن الله قال لموسى: "اضرب بعصاك البحر"، وأوحى إلى البحر أن كن فكان. وطال الأمد على بني إسرائيل فقتلوا أنبياءهم وسفكوا دماءهم ونقضوا عهدهم واستباحوا محارمهم وتحايلوا على الحرام بأدنى شبهة حتى مسخهم الله قردة وخنازير. * ومضى الزمان ودخل محمد صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً إلى ربه ، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟.. فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى من فرعون وملأه.. فقال صلى الله عليه وسلم "نحن أحق بموسى منهم، فصام وأمر الناس بالصيام". * ومضى التاريخ ونحن نحتفل اليوم بعاشوراء وتحتفل به يهود. نحتفل به صائمين داعين مخلصين ذاكرين حرمة الشهر الحرام شاكرين الله عز وجل أن نجى موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل بعد أن كاد عدوهم أن يدركهم ويقضي عليهم. * وتحتفل به يهود على أشلاء الشهداء وأنقاض المنازل في غزة ، تحتفل به على صرخات الأطفال وآهات الثكالى، واستغاثات الشيوخ والعجائز ونحيب الركع السجود. * تحتفل به على طلقات المدافع ودوي الطائرات والصواريخ ونيران الحرائق المشتعلة في كل بيت من غزة. وتحتفل به المقاومة الباسلة في فلسطين بالصمود والتحدي والشهادة والتكبير والصبر والبذل والعطاء والابتسام للموت في سبيل الله، تحتفل به المقاومة رافضة الذل والقهر والاستسلام والاستعباد. ويحتفل به أبناء سوريا ودماؤهم تنزفهم وصرخاتهم تتوالى أملاً في النصرة والخلاص. • فشتان شتان بين الأمتين.. شتان شتان بين النور والظلماء بين الحقيقة والبهتان، شتان بين أمة تحتفل بنجاة أمة غيرها وبين أمة تقتل أنبياءها وعلماءها وتسعى لتدمير بقية الأمم. أما نحن أيها المسلمون، فماذا نقدم اليوم في عاشوراء؟ * لم يعد الصوم وحده يكفي.. ولا الدعاء وحده يكفي.. ولا البكاء وحده يكفي.. أين المدافع قبل المدامع؟.. وأين الأموال المخزونة والكنوز المكنوزة.. والموت يطلب إخوانكم في كل سبيل.. "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله". * فقد أصبح حال أمتنا كنسوة كسيرات في دار بلا أبواب تقع على طريق الأوغاد واللئام.. وقد غاب عنهن الولي والحارس والراعي.. ولا يملكن غير الأنين واستجداء أهل الغيرة. لا عذر لنا عند الله وقد خلص إلى إخواننا وفينا عين تطرف وقلب ينبض بل وأفواه تضحك.. لا عذر لنا إن لم نستطع تطبيق شرعه وإقامة حكمه، لا عذر لنا إن تركنا قلة مأجورة يحركها أصحاب مصالح فاسدون يعبثون بأمن أمتنا وبلدنا، إنه العار الذي لا يمسحه عن أنفسنا إلا أن نموت لنحيا وعندها سيحكم الله بين الأمتين وهو خير الحاكمين. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]