ذات مرة قالت مينا فيليج صاحبة شركة لتوظيف العمال لمحامي الشركة أن الشركات الإسرائيلية تستأجر شهرا أو شهرين فقط من العام كله. كان هذا قبل ثلاث سنوات. أما الآن فهي غارقة حتى النخاع في ملء الوظائف الشاغرة طوال العام. تقول مينا:"جميع الشركات القانونية التي عملت بها لديها عجز في عدد الموظفين بصورة لا يمكن تصديقها." وأضافت :" لا يمكنني أن أواصل هذا، فقد ازدادت أعباء العمل إلى الضعف." ويعد هذا فقط إحدى العلامات التي توضح نمو الاقتصادي "الإسرائيلي" القوي. ففي الوقت الذي أشرفت فيه الضفة الغربية وقطاع غزة على الانهيار، عاد معدل النمو الإسرائيلي- إجمالي الناتج المحلي ارتفع بنسبة 6،6% في الربع الأول من عام 2006- إلى النمو بنفس الخطوات المتقدة التي كان عليها قبل اشتعال الانتفاضة الفلسطينية. وهذا أيضا يوضح تزايد الفجوة التي تفصل بين الاقتصاد الفلسطيني والإسرائيلي- كما توضح انحسار المخاوف الإسرائيلية من الهجمات الفلسطينية. واليوم تكتظ الفنادق بالسياح. في حين أن إنفاق الفرد قفز بنسبة 10،3بالمائة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي ، كما أن هناك رواجا كبيرا في سوق العقارات. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلن حوت الاستثمار الأمريكي وارن بوفي عن شرائه لمصنع "إسرائيلي" يقوم بإنتاج الأدوات القاطعة المعدنية، وهو ما يعد أكبر استثمار أجنبي في "إسرائيل". وهذا يعود إلى أنه تمت السيطرة على موجة التفجيرات "الانتحارية" التي كانت تخيف رجال الأعمال، وإلى أن المستثمرون الأجانب أدركوا المرونة التي يتمتع بها الاقتصاد "الإسرائيلي" على المدى البعيد و قدرته على استعادة وضعه السابق بعد تلك الموجة من الصراعات مع الفلسطينيين. وهذا يجعلنا نؤمن بما قاله وزير المالية السابق من أن الاقتصاد "الإسرائيلي" الذي يتميز بالتقنيات العالية والقائم على التصدير أكثر تأثرا بالسوق الأمريكي للأوراق المالية من أحداث العنف التي تحدث في مدينة نابلس بالضفة الغربية. ويقول أوريل لين، رئيس الغرفة التجارية "الإسرائيلية" :" لم يحدث الكساد بسبب الانتفاضة فقط. فالاقتصاد الإسرائيلي قادر على أن ينمو وأن يستمر في النمو رغما عن الانتفاضة، ورغما عن المشكلات الأمنية." إن دخل الفرد في إسرائيل، والذي يعتبر مقياسا لمستوى المعيشة، يتجاوز دخل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بأكثر من 17 مرة. ومن المتوقع أن تتسع هذه الفجوة مع زيادة معدلات الفقر في فلسطين من جراء المقاطعة الاقتصادية التي تتعرض لها السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة حماس في الوقت الذي تغذي فيه الاستثمارات الأجنبية إسرائيل وتزيد من ازدهارها اقتصاديا. لقد تسببت العقوبات الإسرائيلية، مصحوبة بمنع الولاياتالمتحدة وأوروبا للمعونات المالية، في إفلاس الحكومة الفلسطينية بقيادة حماس وعدم قدرتها على دفع رواتب الموظفين البالغ عددهم 165،000 موظف على مدى الشهرين الماضيين. وقد قرر مجلس الوزراء الإسرائيلي يوم الأحد إعفاء الفلسطينيين من دفع مبلغ11 مليون دولار من الخمسة وخمسين مليون دولار التي تقتطعها إسرائيل من السلطة الفلسطينية كرسوم جمركية، على أن يتم استخدام هذا المبلغ في شراء الدواء والمعدات الطبية للتخفيف من حدة الأزمة الإنسانية في الأراضي الفلسطينية. ويقول الخبراء أن تزايد التباين الاقتصادي يمكن أن تقوض إمكانية تحقيق علاقات سلمية على المدى الطويل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يقول جيرشون باسكن، مدير المركز الفلسطيني- الإسرائيلي للبحوث والمعلومات بالقدس:" هذا ينذر بكارثة. هناك نوع من التجاهل في إسرائيل لحالة لاقتصاد الفلسطيني. فإسرائيل تشعر بأنه لا يهم ما يحدث على الجانب الفلسطيني، وأنها يمكنها أن تفعل ما تريد وأن تواصل النمو". ومما لا يقبل الشك هو أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في شهر سبتمبر من عام 2000 مصحوبة بتلك الحملة من التفجيرات "الانتحارية" أدت إلى حدوث كساد في الاقتصاد الإسرائيلي. فقد انكمش إجمالي الناتج المحلي لمدة عامين واقترب معدل البطالة من 11 بالمائة، حيث اختفى السياح وتجنب الإسرائيليون الشراء من مراكز التسوق. كما أن تزايد العجز في الموازنة أجبر الحكومة على تطبيق برنامج صارم من التقشف والذي ألغى جميع أشكال الرفاهية الاجتماعية. ولكن مع تراجع أعمال العنف، انخفض معدل البطالة ليصل لأقل من 9 بالمائة، ودخل الاقتصاد الإسرائيلي عامه الثالث من النمو الاقتصادي القوي، كما سجلت مؤشرات بورصة تل أبيب مستويات قياسية. ومن المتوقع أن يصل حجم النمو الاقتصادي على الأقل إلى معدلات عام 2005 والتي تبلغ 4،7%. وكانت "إسرائيل" قد حصلت قبل أسبوعين على شحنة معنوية لدى إعلان بوفي بأنه سوف يشتري 80 بالمائة من شركة إيسكار لميتد. ويقول جيل بوفمان، كبير الاقتصاديين في بنك لويمي ليمتد:" يعد بوفي نموذجا يحتذى بالنسبة لغيره من المستثمرين في العالم الذين سوف يسألون أنفسهم: هل استفدنا بما يكفي من إسرائيل في مشاريعنا الاستثمارية؟" وفي العقود التي أعقبت احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في حرب 1967 التي استمرت ستة أيام، بدأ يحدث نوع من التعايش الاقتصادي حيث كانت إسرائيل تقوم بتصدير البضائع الاستهلاكية للفلسطينيين والعمال الزراعيين وعمال البناء من العرب الذي تدفقوا إلى داخل إسرائيل. وقد اشتملت اتفاقية السلام في التسعينات على معاهدة اقتصادية منفصلة [بروتوكول باريس] والتي بناء عليها تم إقامة اتحاد جمركي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. ولكن على مدى العقد الأخير، قللت إسرائيل من اعتمادها على الاقتصاد الفلسطيني مع تلك الطفرة التي حدثت في تكنولوجيا التصدير واستبدال العمال اليومين الذين يأتون من غزة والضفة الغربية بعمال أجانب قادمين من الصين وتايلاند ورومانيا. والآن فإن إمكانية فك الارتباط الاقتصادي الكامل تلوح في الأفق. فإن إتمام الجدار العازل الذي تقيمه إسرائيل حول الضفة الغربية سوف يسمح لها بإنهاء الاتحاد الجمركي، وذلك طبقا لما صرح به السيد باسكن. وفي الوقت نفسه، أعلن البنكان الإسرائيليان الذي يقومون بإجراء عمليات تجارية مع البنوك الفلسطينية أنهما سوف يتوقفان عن التعامل مع البنوك الفلسطينية خوفا من أن هذا قد يمثل انتهاك ل"قوانين تمويل الإرهاب". وهذا من شأنه أن يدمر المشروعات التجارية الفلسطينية وكذلك الآلاف من شركات الأعمال الإسرائيلية ذات الحجم الصغير والمتوسط والتي ربحت مئات الملايين من الدولارات من خلال مبيعاتها للضفة الغربيةوغزة. يقول إبراهام ديشون، الناطق باسم جمعية الأعمال الخاصة بإسرائيل:"لقد تلقينا الكثير من المكالمات. إنهم يقولون:" ماذا سنفعل الآن؟ كيف يمكن أن نسترد أموالنا؟ إننا متورطون في الكثير من الشيكات." ويقول جاكي ماكميل، الرئيس التنفيذي لشركة "مان بروبيرتيز ليمتد" أن الأزمة القائمة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية لا تقلل من سرعة تدفق الاستثمارات الخارجية إلى "إسرائيل". فقد قامت شركات السمسرة العقارية بزيادة عدد العاملين بها بمقدار الثلث في العام الماضي كي تتمكن من تلبية طلبات المستثمرين الذين يبحثون عن عقارات تجارية في إسرائيل. ويقول أن "هذا يذكرنا بأواخر التسعينات عندما كانت هناك موجة من الاستثمارات الأجنبية لشراء عقارات هنا. فلم يعد المستثمرون يلقون بالا لتصريحات الفلسطينيين وتهديداتهم". المصدر : مفكرة الاسلام