بعض البسطاء من ذوى التجارب قال لى يومًا معلقًا على مواقف النخبة المتناقضة بأنهم: "أصْيَعُ من شلبى" لم أفهم العبارة وطلبت مزيدًا من الشرح فقلت له: ماذا تقصد ياعم بأنهم أصْيَعُ من شلبى؟ فشرح لى أن شلبى هذا واحد عاطل ليس له شغلة ولا مشغلة غير الَحكْى على الناس، هو يتردد على أبواب الأثرياء فى القرية، ويأخذ بعض فتاتهم، ويُسَلِّيهم بالحديث عن فلان وفلان وعلان، حتى أصبح مضربًا للمثل لكل عاطل لا يقدم شيئًا، لكنه فقط يجلس طول النهار والليل مشغولاً بنقد من يعملون". شلبي، النموذج الذى ساقه لى أحد البسطاء يعكس أن شعب مصر أم الدنيا، و أم بناة الحضارة، قادر على السخرية ممن ينظرون إليه بغرور واستعلاء، كما يسخر من جلاديه والتهكم عليهم حتى فى أشد ظروف الدكتاتورية ظلامًا ووحشية. والكل يعرف أن مصر أم الدنيا أكبر من أى تيار، ولن يستطيع تيار بعينه أن يحتويها كلها، ولأن خريطة الانتماءات متعددة الألوان والأطياف والرؤى والتوجهات، لذلك فهى أكبر من أن تنحصر فى جماعة واحدة سياسية أو ثقافية. وفى العالم القديم كان يمكن قهر الآخر ونفيه والقضاء عليه، أما فى العالم الحديث فهناك حالة اضطرار حتى للأضداد لتتعايش معا، ولا يستطيع أحدنا مهما كان أن ينفى الآخر، كما لا يستطيع فصيل واحد أن يحتكر الوطنية وأن يختزل الوطن كله فى فكرته أو فى أيديولوجيته. وفى الديمقراطيات الحديثة يظل الصراع السياسى بضوابطه هو القانون السائد بين الحكومة والمعارضة، فالمعارضة لا تضيع فرصة إلا وتنتقد الحكومة، ونقد البرامج الحكومية وخططها وبيان قصورها واحد من آليات المعارضة فى استقطاب الناخب وتحويل انحيازه بالوسائل المتعددة ومنها بالطبع السلوكيات الشخصية لأعضاء الحكومة إذا خرجت عن مألوف العادات والقيم المتعارف عليها، وقد يكون النقد لاذعًا ومكلفًا، وقد تخسر الحكومة بعض مواقعها جراء عمليات النقد هذه لتملأها المعارضة، ومن القيم المتعارف عليها فى أعرق المجتمعات الديمقراطية أن هنالك تقاليد فى الممارسة السياسية يجب أن تراعى، وحقول الحريات العامة بما فيها حقل التعبير عن الرأى تنضبط بتلك التقاليد وتعرف حدودها، وتقف عندها ولا يمكن أن تتجاوزها، ومن يفعل ذلك يتعرض للمساءلة القانونية، يعرف ذلك جيدًا المتابعون والباحثون فى النظم السياسية. ووسط هذه المساحة الضخمة من الحرية بضوابطها تدرك هذه المجتمعات أنه من مصلحة الوطن والمواطن أن تكون هناك معارضة قوية ومحترمة، تنتقد بأمانة، وتتصرف بمسئولية وتعلى مصلحة الوطن على المصلحة الخاصة. والحاكم فى هذه المجتمعات ليس هو الدولة، ومن ثم فهم لا يعرفون صناعة الفرعون، صناعة الفرعون صناعة محلية لا توجد إلا فى شعوب العالم الثالث، وهى تعنى أن يختزل الوطن فى شخص الرئيس فيكون بشخصه وسياساته وتصرفاته خطأ أحمر، ويصبح له من القداسة المقننة وغير المقننة ما يجعل مجرد التعرض لسياساته جريمة تستوجب العقاب، فضلاً عن جريمة التعرض لذاته، ومن ثم عرفت بعض الدول مصطلح "العيب فى الذات الملكية" ومع يقينى القاطع الذى يدعمه الدليل والواقع، وخبر التاريخ الموثق أن الإسلام هو أسبق النظم فى مجال الحريات الشخصية من كل النماذج السائدة، إلا أننى لن أتحدث عن نموذج منه حتى لا يتهمنا فصيح أسير لثقافتهم وسخافاتهم أيضًا بأننا نرغب فى العودة بهم إلى عصور الظلامية كما يرددون لذلك سنأتى بنموذج من الغرب الذى هو قبلة هؤلاء وكعبتهم حتى يكون أقرب إلى فهمهم وأقطع لحجتهم. أقول: ربما كان فى الغرب مَن يتطاول على شخص الرئيس، وقد حدث ذلك منذ شهر عندنا هنا فى أستراليا عندما عرَّض مذيع مشهور برئيسة الوزراء السيدة "جوليا جيلارد" وقال: "إن والدها مات حسرة من كثرة كذبها"، ولكن الحادثة لم تمر هكذا بل أخذت امتدادًا هدد المحطة التى يعمل فيها المذيع بالإغلاق وأحدث ارتباكًا عامًا، وأثار سخط الجميع بمن فيهم المعارضون لسياسة جيلارد، لأن لديهم قواعد تضبط طريقة النقد وتنظم شؤون المجتمع وتمنح الحريات للجميع وتفرض مسؤوليات على من يسىء، وقد اضطر المذيع المشهور أن يقدم اعتذارًا، لكن رئيسة الوزراء لم تقبل الاعتذار. والتجربة الديمقراطية فى مصر جديدة، ومن ثم فمن المقبول أن يختلف بعض شرائح الشعب المصرى العظيم على شخص الرئيس، وقد يختلف معه فى المنهج، وقد يعترض على بعض قراراته ويعارض سياساته، ولكن ذلك كله شىء وإهانة شخص الرئيس وتحقير رموز الدولة بأشخاصهم لمجرد أنه أو أنهم من تيار لا نرضى به أو لا نقبله شيء آخر . إهانة شخص الرئيس أو أى رمز آخر من رموز الدولة تعنى خلط ما هو خاص بما هو عام، والأمر هنا لا يتصل من قريب أو من بعيد بصناعة الفرعون أو بإضفاء قداسة وحصانة على شخص حتى لو كان الرئيس، لأن الأصل فى المجتمعات التى تحترم نفسها أن شخصية الإنسان وكرامته مصانة بموجب الحقوق العامة للبشر بصرف النظر عن موقعه ومكانته، ومن ثم فالنقد يجب أن يتناول السلوك السياسى والخطط والبرامج، وليس خصوصيات الأشخاص وأشكال أجسادهم وأقفيتهم، وقد كفانا مؤونة الكلام فى هذا الموضوع أستاذنا الكاتب الكبير الأستاذ محمد يوسف عدس بمقال ممتع بعنوان "نظرية الأقفية" نشر بتاريخ 8 أكتوبر 2012 بجريدة "المصريون" ويمكن للقارئ الكريم الرجوع إليه والاستفادة والاستمتاع بما جاء فيه. والدولة بتعريف بسيط هى كل الأجهزة التى تدير شأن الوطن وتحمى حقوق المواطن وتحقق طموحاته، ونقدها فى سياستها وبرامجها وخططها شىء، غير التطاول والتجاوز وأسلوب الكذب، فهذا سقوط لا علاقة له بالنقد الصحيح ولا بالمعارضة، وإطلاق العنان لكل سفيه باسم الحرية ليسىء للآخرين جريمة فى حق المجتمع وطنا ومواطنين، وإلا كان الحطيئة وهو شر الناس زعيما عبقريا. النقد البناء لأداء الوزراء أو حتى الرئيس شىء آخر غير ذلك السفه الموتور الذى يتناول شخص الرئيس، ويعرض بقفاه كما تحدث صاحب حمالة الحطب ورفيقه المغمور رسام الكاريكاتير. الدولة بهذا المفهوم لابد لها من سياج يحمى مهابتها ويرد عنها تطاول الصغار والسفهاء، ويردع الموتورين الذين لا يعملون لا لصالح الوطن ولا لصالح المواطن. ما نسمعه ونشاهده فى القنوات الفضائية ليس إلا سقوطا يجب حماية المجتمع منه، وبذاءات البعض ممن كان بالأمس يعمل خادمًا لنظام مبارك وأولاده ليست مقبولة، وليست حرية ولا جرأة، ولا شجاعة رأي، ولا يجب أن يسمح المجتمع بها، وأعتقد أن فى القانون ما يؤدب أصحابها ويقف بهم عند حدود اللياقة الاجتماعية والأخلاقية لمصر وشعبها ورئيسها وهيبة دولتها. ونحن نفهم أن حديث رموز النخبة المتكرر ونقدها لجماعات الإسلام السياسى أضحى سبوبة وأكل عيش، لكنه حديث ممل ومحزن ومخجل أيضا، والغريب أنه نقد يرتد إلى أصحابه ومن أطلقوه، فهم دائمًا يحدثوك ويحذروك من جماعات الإسلام السياسى وأنهم خطر على الحياة وعلى مدنية الدولة، وأنهم يسعون لإقامة خلافة إسلامية، وأنهم أكثر سيطرة على الشارع، وأكثر تأثيرًا على الناس، وأكثر حضورًا فى مشاكل المجتمع وقضاياه، وأنهم وأنهم وأنهم إلى آخر هذه القائمة المملة والمكرورة، وهذا الذى يتردد على ألسنة خصوم جماعات الإسلام السياسى هو مدح فيهم من حيث إرادة الذم، وإشادة بقدرتهم وحضورهم وتأثيرهم وفاعليتهم، وإذا كان الأمر كذلك فهو فى ذات الوقت شهادة اعتراف بخيبة وفشل وعجز من ينقدون ويطيلون ألسنتهم فى تناول الآخرين. الحقيقة أن النخبة تائهة وضائعة، وليس لها من رصيد غير الكلام التافه الذى يملؤون به فراغ الفضائيات الفارغة، وكأنهم ينتقمون من الشارع الفارغ من وجودهم، والذى فض يديه منهم وأدرك بفطرته الذكية رغم بساطته أنهم ليسوا إلا تجار شعارات، وأنهم لا حيلة لهم غير الكلام الذى يساهم فى إبقاء التخلف ويباعد بيننا وبين الاستقرار والانتقال إلى مرحلة البناء والتنمية لأنه يؤزم الحياة السياسية كل يوم بإضافة عقد جديدة. شلبى هذا الذى بدأنا بالحديث عنه، له نظائر وأشباه، ربما ليسوا فى بساطة ملبسه ومطعمه ومأواه، وأيضًا ليسوا فى بساطة طموحاته وأطماعه، فأشباهه ونظراؤه يحسنون اختيار ملابسهم فى الشتاء والصيف، والصباح والمساء، ويحسنون اختيار أربطة العنق وعرض الكلام المنمق، لكنهم لا يحسنون اختيار مواقفهم من أجل الوطن. شلبى أصدق لهجة منهم، لأنه لم يحظ بالقدر الثقافى الذى يجعله يستشعر الخجل مما يفعله، ولذلك فهو معذور عرفا وقانونا لأنه لا يعلم ولم يدع العلم، ولم يغضب لأن أحدًا يتجاهله ولا يعده ضمن المثقفين، ولم يثر حين لم يقع عليه الاختيار ليكون عضو اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور . شلبى ربما يكون رغم تبطله وطول لسانه أصدق لهجة منهم فيما يفعله لأنه يعرف حجم نفسه، بينما هم يفعلون ذلك فى الوقت الذى يقدمون أنفسهم على أنهم قادة الرأى وأصحاب الفعاليات الثقافية والسياسية ومشاهير الأمة وحماة الثورة والحريصون على تحقيق أهدافها. نعم شلبى أصدق لهجة منهم، لأنه على الأقل لم يحظ بالقدر الثقافى الذى يجعله محل الملام والعتاب والسخرية. [email protected]