المواطن المصرى، درة هذا البلد، ثروته .. طاقته ورأسماله، ما للدولة تعاملنا هكذا كعبيد إحساناتها، مال لحكوماتنا الغراء التى ترثنا واحدة تلو الأخرى قبل الثورة وبعدها، مالها تتجاهلنا كبشر لهم كيان وكرامة، مالها تتفنن فى إذلالنا على كل المستويات، وسأخص هنا إذلالها لموظفيها وإهانتهم، بإلقائهم فى بنايات متهالكة وغرف قذرة وآليات عفا عليها الدهر لتكدرهم، وتحول ساعات العمل إلى ساعات عقاب كريهة يتمنى الموظف انتهاءها قبل بدايتها، ويبذل كل فنون التحايل للتهرب منها بالتمارض أو التزويغ، وإن لم ينجح، كان الويل للمواطنين الذين سيقعون تحت رحمته لقضاء مصالحهم، ويل لهم من عقدة جبينه وشخطه ونطره وتعطيله لأمورهم، أو فتح أدراج مكتبه لإكرامياتهم حتى ييسر لهم ما يعقده عمدا، لتعويض الجنيهات القليلة التى هى راتبه، لأنه راتب لا يمكن أن يقاس بأى صورة من الصور براتب موظفى الحكومة فى أى دولة من دول العالم حتى دول المجاعات فى إفريقيا . كنت أنوى مواصلة زيارة المكاتب والمصالح الحكومية، سواء كان لى بها طلبا أو توقيعًا أو ختمًا للنسر الرهوان، أو لم يكن، لنقل صور واقعية عما يحدث وأن أقدم تلك الصور الهزلية لمصالحنا الحكومية التى تقوم على خدمة ملايين المواطنين فى مصر، أقدمها كهدية إلى رئيسنا محمد مرسى، وحكومة هشام قنديل، وكل الوزراء فى أول حكومة اختارها أول رئيس منتخب بعد ثورتنا المجيدة، عل هؤلاء جميعا لم يزوروا تلك المصالح من قبل، أو زاروها ونسوا، ولم تعد لهم فيها مصلحة بعد أن وصلوا الى مناصبهم الرفيعة، كنت أنوى استكمال جولاتى ، ولكنى بعد ثلاث زيارات لمكتب الشهر العقارى بالعرب فى المعادى، مكاتب استخراج البطاقات بقسم عابدين، مكتب تأمينات العجوزة، قررت التوقف عن الجولة، فقد أصبت بالسأم والملل، وكادت سكتة قلبية وقلمية تصيبنى للأبد مما رأيته، لا شىء تغير بالمصالح والمكاتب الحكومية عما كانت عليه فى العقود الماضية، بل زاد الأمر سوءا بزيادة تعداد السكان وبزيادة " تحميل " الخدمات على موظفين يعملون فى ظروف عمل غير آدمية. فالمشهد متكرر فى كل مكاتب ومصالح مصر طبق الأصل، وصور إذلال المواطنين طبق الأصل، سواء بمكاتب الشهر العقارى، البريد، أماكن استخراج البطاقات الشخصية، مكاتب المرور لتجديد تصاريح القيادة، الإدارات التعليمية التى يذل بها الآباء لنقل أبنائهم من مدرسة لأخرى، السجل المدنى، البنوك الوطنية، مرفق المياه، الكهرباء، الغاز، حتى أقسام الشرطة، وغيرها الكثير، كل هذه الأماكن بلا استثناء إذا ما دخلها المواطن، شعر أنه يدخل وكر لعصابة فى مخزن أو جراج تحت الأرض، وعليه أن يتحمل ساعات أو أيام العذاب حتى يقضى مصلحته، وسيعاقب من الموظف أن تذمر أو تأفف أو أظهر أى ملحوظة أو اعتراض على بطء العمل، أو على ساندويتشات الفول التى يفطر بها الموظفون وأمامهم طوابير المواطنين المطحونين فى انتظار آخر لقمة ورشفة شاى، لتكون إشارة البدء للتطاحن والتكالب على شباك المهانة والإذلال . كيف يمكن لموظف فى هذا المناخ القاتل أن يؤدى عمله كما يجب وبما يرضى الله، وأن تتم الاستفادة الحقيقية به وبكفاءاته العملية، وكيف يمكن للمواطنين أن يواصلوا مسيرة حياتهم فى الطوابير الآدمية انتظارًا لإنهاء مصالحهم، وكيف يمكننا جميعا أن نستمر فى قبول إنهاء مصالحنا التى تمسنا وتمس صميم حياة ملايين المصريين بهذا الأسلوب البدائى المتعفن المهين، فى وقت أصبحت فيه التنمية البشرية فى كل العالم هى أكبر رأس للدول، وأصبحت نظم العمل والإدارة بتلك الدول تدار عبر الكمبيوتر وشبكات الإنترنت، إن منظومة العمل فى جميع المصالح الحكومية بمصر فى حاجة إلى "تفوير" وليس إعادة تدوير أو ترميم لإنقاذ المصريين وحماية آدميتهم وكرامتهم، إلا إذا كان إبقاؤها على حالها خطة مستدامة ومستلهمة من حكومات العهد البائد لهلك المواطن وطحنه، وإلهائه فى مصالحة فلا يفكر فى السياسة ولا فيما يحدث بالبلد أو بحقوقه فى الحرية والديمقراطية، على حكومتنا الغراء أن تتحرك لأن ثورة أخرى قادمة .