فن إذلال المواطن الذى رسخه النظام السابق اللامباركى، لا يزال يسير على نفس الوتيرة بكل المصالح والخدمات التى تمس حياة المواطن، وكأنه منظومة ورثتها حكومات ما بعد الثورة، ولا تفكر مطلقًا فى تغييرها، ليستمر المصرى فاقدًا لآدميته واحترامه، فقد دفعنى سوء الحظ لأن أقصد مكتبًا للشهر العقارى الأقرب للمعادى حيث أقيم لتوثيق ورقة، ومقر المكتب بمنطقة العرب، وأنا يا سادة منذ استخرجت أول بطاقة شخصية فى حياتى قبل ثلاثة عقود أكره التعامل مع أى موظف حكومى حفاظًا على كرامتى، ومن لا يعرف منطقة العرب عليه أن يخطف "رجليه" إلى هناك، فإذا ما تجاوز حيًا راقيًا ببضعة أمتار، سيتلقفه العرب بمعالمه العشوائية.. مجارى "ضاربة"، أسواق تبيع كل شىء، ميكروباصات بالطول وبالعرض، مشاجرات وبلطجية، تلاميذ هاربة من المدارس يتقاذفون "بالطوب"، ألفاظ نابية هنا وهناك، عمال تراحيل مكدسون على الأرض فى انتظار باب الرزق، وبعد أن يتجاوز كل هذا ببهلوانية دون أن يصاب بمكروه سيصل لشارع جانبى ضيق، حيث يختبئ مكتب الشهر العقارى، وأنا أشكر العبقرى الذى اختار هذا المكان لمكتب يخدم سكان المعادى وطره وغيرهم، لأنه بهذا يحميه من "القاعدة" ومن أى استهداف إرهابى! وعلى من يقصد مكتب الشهر العقارى فى العرب أن يستعد ليوم طويل من الصبر، وقبل هذا يضع كرامته فى ثلاجة ليتحمل "شخط ونطر" موظف أتعبه الزحام، إن كان ينوى توثيق أوراقه وتزيينها بتوقيع سبعة موظفين وأختام المكتب والنسر الرهوان، وهو مطالب بالانتظار والتجول خمس ساعات أو أكثر بين أربع شقق صغيرة منفصلة، وسيقف فى صف طويل ثمانية مرات، أول مكتب ليسلم بطاقته فقط لمكتب محطم الواجهة الزجاجية، وتم استبدال الزجاج بلوح "أبلكاش" "مشرشر" الأطراف، وهى فكرة عبقرية لحماية الموظف من اقتراب المواطنين إلى مسافة محددة، وبعدها طابور لتوقيع الورقة، ثم طابور ثالث لتحديد الرسوم، فرابع لتدفع الرسوم، وخامس لتسلمك الورقة وإيصال الرسوم، وسادس لتدفع لموظف مبلغًا آخر ليحولك إلى الميكروفيلم، وبعدها طابور سابع لقسم الميكروفيلم، وطابور ثامن لتسجيل بيانات الورقة فى دفتر، وأخيرًا "أشهد أن لا إله إلا الله" تضع لك مديرة المكتب أو "الريسة" ختم النسر الرهوان. وقد لا يسعدك الحظ لتنول كل هذه التوقيعات، لأن النهار خلص فى أول طابور بين دخان السجائر والزحام ورائحة كل خلق الله، وفترتين العمل انتهيا، ولم يصبك الدور، فتقول لك الموظفة: "فوت علينا بكرة" فوفقًا لما علمته "طفش" 3 موظفين من المكتب وحصلوا على وساطة للعمل بمكاتب مستشارين، وقالت لى موظفة إنها مطالبة بتوثيق600 توكيل شهريًا لتحصل على الحوافز، فيما توثق هى قرابة الألف لضغط العمل، وأنهم يرفضون خدمة من يحملون بطاقات عنوانها ليس المعادى أو طره بالمخالفة لقرار وزارة العدل بسبب الزحام. ولا أعرف أمام كل هذا لماذا لا يتم التوسع فى عدد مكاتب الشهر العقارى بكل حى طالما تدر هذه المكاتب دخلاً كبيرًا يوميًا لخزانة الدولة؟، وما هو سر تقليص عدد الموظفين بالمكاتب القائمة؟، ولماذا لا يتم تطوير هذه المكاتب وتهيئتها بصورة محترمة؟، ولماذا يعمل الموظفون بالورقة والقلم وكأنهم لم يسمعوا عن اختراع الكمبيوتر؟، إن فتح المزيد من مكاتب الشهر العقارى سيعالج جانبًا من البطالة باستيعاب آلاف الخريجين من كليات الحقوق والجامعات، وسيسهل على المواطنين أداء خدماتهم، وسيساعد فى عدم تزويغ الموظفين الآخرين من عملهم لقضاء يوم أو يومين فى الشهر العقارى لتوثيق ورقة، كما ستحفظ العلاقة بين الموظف بالشهر العقارى والمواطن بصورة آدمية ومحترمة. يا وزارة العدل ارحمينا بقليل من العدل، وتوقفى عن فن إذلال المواطن الذى بات يضاف إلى كل فصول العذاب والإذلال اليومى التى نتعرض له فى كل قطاعات الحياة.. ولفن إذلال المواطن حديث آخر وبقية.